مؤمنةٌ أنّ لكلّ شخص كتاباً يتناسب معه، في مرحلة من مراحل حياته، أو نوعاً معيّناً من الكتب يلائم أشخاصاً بحدّ ذاتهم، دون غيرهم، ممّن يحتاجون إلى سنَد في كلمة، في حكاية، قد يجدون بين طيّاتها سعادة ما، لأنّها تذكّرهم بموقفٍ أو حادثة ظلّت راسخة في مخيّلتهم. في هذا الصدد، تتساءل الكاتبة السورية ناديا محمد ياسين: «لِمَ يا تُرى أودع والدي ذكرياته عندي؟». لعلّ الإجابة تتّضح للقارئ عندما يطالعُ كتابها السيري «في ظلال قهوتي» الصادر عن دار «ليان للنشر والتوزيع» (2019) الّذي وردَ فيه هذا التساؤل. وكإجابة عنه، تعود بنا إلى مراحل شتّى من حياتها، تشاركها معنا بصدقٍ وحميميّة، وهي لا تدري أنّها تقدّم من خلالها سرداً جميلاً، يحملُ تصوّرات عن حياة الإنسان المغترب، وعلاقته بكلّ ما يربطه بالوطن. أيضاً تتحدّث عن بداياتها في العمل، العائلة والأصدقاء، إذْ وثّقتْ كلّ ما مرّ بها، كي تشاركه مع القارئ، الذي لن يعرف ناديا فقط، وإنما يعرف قصّة حياة وكفاح، لن أقول بدأتْ من الصفر، لكن بدأتْ من الصّبر، التفاؤل، التحمّل، القُدرة على المواصلة وتقبلّ الحياة كيفما كانت، بدايةً بتقبّل الغُربة ومحيطها المختلف، والتأقلم، ومحاولة خلق السّعادة من أبسط الأشياء، فحتّى القهوة لها رمزيتها الكبيرة عند ناديا، إذْ منحتْها الحيّز الأكبر في أنْ تكون عنواناً لكتابها، الذي تحكي فيه عن علاقتها معها، كأنّها جزءٌ لا يتجزأ مِن ذكرياتها، ومِن تجدّد نهاراتها، وقُدرتها على الاستمرار.
بأسلوب غير متكلّف يميل إلى البساطة، تأخذنا ناديا إلى أماكن عِدّة، بقصصٍ مختلفة، تحمل الكثير مِن الأمل كحكاياتها مع المرضى «قصة السيدة عايدة مريضة السرطان التي شُفيت»، تتحدّث أيضاً عن قيمة الجار التي تنطوي عليها الكثير من القيّم الأخرى.
«في ظلال قهوتي» ليس كتاباً سيّرياً فحسب أو يندرج ضمن أدب اليوميات، بلْ يتجاوز ذلك إلى مجموعة من القيّم الإنسانية التي أرادت الكاتبة أن تُخلّدها بهذا الكتاب، ليختلط السيري بالخيال في عملٍ تعرض فيه العديد من النقاط المهمة، كالخيانة، وقدرة المرأة في التغلب عليها من أجل ضمان استمرار العائلة، وأيضاً تبرز علاقتها بأسرتها، قيمة العائلة في حياتنا، وكيف يمكنُ لتلك القيمة أن تشحن الإنسان بكلّ العواطف الإيجابية التي تحرّضه على المضي قُدماً رغم كل شيء.
كذلك، تتناول علاقتها القوية بالكتب والمكتبة، وكيف شكّلت منها القراءة إنسانة ناضجة، وواعية، كما أنها قدّمتْ رأيها النقدي في ما قرأت، والتأثير الإيجابي التي تتركه القراءة في حياتنا على المدى البعيد، مُبرزةً فيها نماذج من كُتّاب، كأحلام مستغانمي التي ترى أنها كانتْ أفضل من تحدّث بلسان الرجل في ثلاثيتها، في حين ترى أن إحسان عبد القدوس: «أفضل من كتب عن المرأة بلسانها، فقد تمكن بحرفية مدهشة وصف مشاعرها في كل مراحل حياتها، مراهقة، شابة، زوجة، أرملة، عانس، عاشقة وعشيقة وكذلك خائنة».
أما حكاية «أنا لونا يا بحر»، يكاد يكون العنوان رواية، كيف تقدّم طفلة صغيرة نفسها للبحر من دون أدنى قيد أو حتى شكّ في أنّه قد لا يردّ عليها.
علِقتْ هذه القصّة تحديداً في ذهن الكاتبة، ليس مُصادفةً، فالكثير مِن القصص تحدثُ يومياً ولا ترسخ في الذاكرة، وإنما لأنّها ملهمة لذا شاركتها والقارئ، لتتضّح فكرة تشكّل وعينا بالأشياء، للمرّة الأولى، عن تلك الدهشة، التي تشبه دهشة الحبّ الأول، وكيف من خلالها يمكن أن نرسم علاقتنا بكلّ شيء حولنا.
تتحدّث أيضاً في قصّة من قصص الكتاب عما يبديه الإنسان كصورة عن شخصيته، وما يخفيه، الذي هو بمثابة شخصيته الحقيقية أحياناً، وخاصّة في المجتمعات العربية التي يُعدّد فيها الرجل صداقاته بالنساء لكنّه حين يريد الزواج، يذهب إلى الارتباط التقليدي. وهذا يكاد يكون بحدّ ذاته نوعاً من الانفصام. تقول في الكتاب: «لحظة فاصلة بين ما نبدوه وما نكونه في الحقيقة».
لا يمكن اختصار قصص الكتاب، في مقالٍ واحد، وحصره في قصّة بعينها، لأنّه يحمل سيرة حياة، لا يمكن أن تمرّ عليها بكلمات عابرة، يكفي أن تقرأها لتشعر بكلّ كلمة، إذ تخلق ناديا من هذه النصوص جسور تواصلٍ بينها وبين كلّ من يحمل لغتها التّي ما انقطعتْ للحظة صلتها الوثيقة بها.
«في ظلال قهوتي» هو سيرة ناديا كما كُتب لها أن تكون، والتّي نجدُ أنفسنا كقراء عرب في بعضها، فلا شكّ في أنّنا نتشارك الهموم والأفراح ذاتها وإنْ اختلفت طُرق التعبير عنها.