يشكّل يوم السينما في إيران (العاشر من أيلول/ سبتمبر)، وقفةً ثقافيّةً هامّة عند منعطف التغيير والإصلاح الذي طرأ على تاريخ السينما الإيرانية، تزامناً مع انتصار الثورة الإسلامية والنهضة الفكرية الثقافية التي انشغلت فيها كل الشرائح الاجتماعية وأسهمت فيها على طريقتها. فالإنسان لطالما عبّر بالفنون عن واقع حاله وعن وضع بلاده ومجتمعه. ويمكن القول إن السينما ما قبل الثورة كانت تحملُ دلالاتٍ واضحة على البرهة الزمنية التي تنتمي إليها، من انحطاطٍ ثقافيٍّ وأخلاقيّ، وتبعيّةٍ فكريةٍ للغرب سبّبت استيراد المواد الثقافية والفنية الجاهزة التي أعدّت لمجتمعاتٍ لم تكن تشبه المجتمع الإيراني في حينها بأيّ شكل. تغيّر الحال، وبعدما كانت السينما الإيرانية في العصر البهلوي تتمحورُ حول موضوعاتٍ لا تشكّلُ قضايا إنسانيةً جوهريةً بقدرِ ما هي في الواقع مادة ترفيهية هابطة إلى حدٍّ كبير، تلعب على وتر الرغبات والأهواء وتمضية الوقت، أصبحت منذ لحظة انتصار الثورة تحمل مقاربةً مختلفة جديدة، لتخرجَ من الصيغة الترفيهية التجارية والتسويقية، إلى صيغةٍ ديناميكيةٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ عالية. وبدأنا نرى ونلمس القيم الدينية والإنسانية والأخلاقية في ما يقدّمه هذا الفن السابع أخيراً، بعد عصورٍ من الجهالة والركود. قالها الإمام الخميني، ضمن خطابه في فجر انتصار الثورة: نحن لسنا ضدّ السينما في إيران، وإنما ضدّ الفساد.
وكان الاهتمام بالمهرجانات السينمائية، الداعم الأول والحافز لإنتاج المزيد من الفنّ الوطني الذي يقدّمُ صورةً حيّةً من ثقافة الوطن الخاصة ومشكلاته وأزماته وحالاته. وقد شهد هذا المجال نمواً ملحوظاً على صعيد إيران والعالم، حتى أنه أوصل المشهد الإيراني والعمل السينمائي إلى المهرجانات العالمية، التي عجزت عن تجاهل كمية الإبداع وجودة الأفلام السينمائية الإيرانية. وتضاعف الإنتاج السينمائي عما كان عليه قبل الثورة بشكلٍ مذهل. كما بلغت المراكز السينمائية أضعافَ العدد الذي كانت عليه قبل الثورة، فبتنا نشاهد عشرات المراكز في كل مدينة، تُعنى وتهتم بالفعاليات والنشاطات السينمائية والمسرحية. فأصبح الفيلم الإيراني انعكاساً لثقافة شعبٍ حقيقية تتسم بالأصالة، حيث لا قيمة للتقليد والاستيراد وتبني الأدوات الغربية في السينما المحلية أو الوطنية.
وكان نجاح هذه السينما من خلال النص السينمائي الذكي الذي يوظف الرموز المحلية ولا يقدم مساومات لاختراق حواجز السوق، مما أثبت أن السينما في إيران قادرة على تناول الحاضر المعيشي عبر الصورة، بطريقةٍ ذكيةٍ وإبداعٍ لم تحدّه الثورة، بل صحّحت مساره ووضعته على طريق التفرد والأصالة والخَلق والابتكار، وجعلته مدرسةً فنيةً يُقتدى بها.
نجاح هذه السينما من خلال النص الذكي الذي يوظف الرموز المحلية ولا يقدم مساومات لاختراق حواجز السوق


وفي أول خطوةٍ، أُنشئت في ظل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي مؤسسة خاصة أطلق عليها «مؤسسة الفارابي» السينمائية، من خلالها حصرت عملية استيراد الأفلام الأجنبية، إلى جانب دعم السينما الوطنية، ما شكل مرحلةً لاحقةً كانت هي الأغنى والأكثر تحديداً لهوية السينما الإيرانية في شكلها الحالي. كما تلتها مؤسساتٌ عديدةٌ أخرى خلال السنوات المتعاقبة.
اليوم، يعد «مهرجان الفجر السينمائي الإيراني» من أبرز تجليات مرحلة ما بعد الثورة وثمارها، حيث عرفت السينما الإيرانية طريقها للمهرجانات الدولية ووجدت سوقاً دوليةً لتلك الأفلام، ومن تلك الأفلام كان الفيلم المهم لعباس كيارستمي «طعم الكرز» الذي حصد جوائز عدة، وفيلم «الدائرة» لمخرجه جعفر بناهي الذي حقق «جائزة الأسد الذهبي»، وهي الأكبر في «مهرجان البندقية السينمائي». وتُوّجت تلك المسيرة بمخرج شاب بارع اسمه أصغر فرهادي استطاعت أفلامه أن تصل إلى المهرجان السينمائي الأكبر وتنال أوسكار أفضل فيلم أجنبي. ونال فيلماه «انفصال» و«البائع» جائزة المهرجان. إلى جانب المخرج المبدع مجيد مجيدي الذي حاز فيلمه «لون الفردوس» الجائزة الذهبية، والمخرجة الشهيرة بوران درخشنده. يقول أحد السينمائيين العرب في هذا الصدد، إنّ السينما الإيرانية هي فاكهة المهرجانات الدولية، حيث تحصد الأفلام في إيران اليوم جوائز عالمية ووطنية بمعدّل 360 جائزة سنويّاً.
ولا ننس دور المرأة في هذه السينما، التي سجلت وتسجل كل يوم حضورها في مجال التمثيل والإخراج والكتابة والسيناريو، وتنال الجوائز بدورها على ما تضيفه إلى عالم السينما الإيرانية والعالمية من صورةٍ مشرّفة للمرأة الإيرانية في مجتمعها، من دون أن يقيّدها أو يعيقها شيء.
من هنا كان يوم السينما في إيران، احتفاءً بباكورة عشرات بل مئات الأعمال السينمائية سنوياً في الجمهورية الإسلامية التي كانت ثورتها ثورةً بكل المعايير وبكافة المقاييس، فشملت بذلك الفن والسينما والمسرح والثقاقة، واستطاعت أن تنتج لنفسها بصمةً أصيلةً تعرف العالم على حضارة هذه البلاد وثقافتها الحقيقية.
* المستشار الثقافي الإيراني في لبنان