يُقال إن في السويد لا هموم. لا هموم إلاّ هَمّ اللّاهموم. يُقال أيضاً إن الفن يولَد من شقاء، من عذاب، من غليان اجتماعي. ربما هذا صحيح، فالسويد لم تُعرَف بنتاجها الغزير على هذا الصعيد، وتحديداً في الموسيقى. في البدء، كانت الموسيقى الكلاسيكية من جهة، ومن جهة أخرى الفولك أو الموسيقى والأغاني الشعبية الذي يُنتجها الشعب ويؤديها ويتناقلها ويُضيف إليها وتبقى متداولة داخل بيئة محدّدة. كل الشعوب لديها إرث من هذا النوع، لكن ما يخرج إلى أبعد من الحدود هو الموسيقى الكلاسيكية، والسويد لم تعرف إلاّ حالات متواضعة في هذا المجال.
تأسست الفرقة عام 1972 وحُلَّت عام 1983، صنعت أشهر أغنيات تلك المرحلة وباعت إصداراتها بالملايين وشكّلت حالة عالمية بين الشباب

جيرانها كان لكلّ منهم بطله: إدوارد غريغ في النرويج، كارل نيلسن في الدانمارك وجان سيبليوس في فنلندا. في السويد؟ هناك مؤلف اسمه يوزف كرواس (1756 — 1792)، لولا لقبه لما سمع أحد به. فقد عاش في فترة شبه مطابقة لموزار، إذ ولدا في السنة نفسها في حين رحل الأول بعد الثاني بسنة. لُقّب كراوس بـ«موزار السويدي»، فأمّن له اللقب بعض الانتشار، بينما أعماله لا يتعدى الاستماع إليها عتبة الفضول والرغبة في اكتشاف ما لدى هذا الموزار السويدي. أساساً، كراوس أصله ألماني ومولود في ألمانيا وانتقل لاحقاً إلى السويد، ومن أتوا بعده من البلد الإسكندينافي لم يقدّموا ما ينافس الإيطاليين والفرنسيين والروس والإنكليز والإسبان والمجريين والأميركيين (بعد الحرب العالمية الثانية) وبعض دول أميركا اللاتينية، كي لا نُدخِل مَن هُم خارج المنافسة، أي الثنائي الجرماني ألمانيا/ النمسا حيث الأدمغة الكبيرة. كذلك، مع ولادة تيارات جديدة في القرن العشرين، من البلوز إلى الجاز والفانك والريغي والروك وتوابعه، حصلت تجارب كثيرة جيّدة في أوروبا، كما طوّرت البلدان (ومنها اللاتينية والأفريقية بكل تنوعّها والآسيوية والعربية ومن ضمنها لبنان مع فيروز والأخوين رحباني) موسيقاها الشعبية لناحية إتقان الصناعة والترويج. ساعد في ذلك اختراع التسجيل وتطوّر تقنياته بشكل سريع وكبير بين مطلع القرن الماضي ومنتصفه. أما السويد، باستثناء بعض نجوم الغناء الأوبرالي (مثل نقولاي غيدّا ويوسّي بيورلينغ)، فقد بقي حضورها خجولاً على الخريطة الموسيقية إلى أن… أتت ABBA. بمسيرة دامت عشر سنوات تقريباً، استطاعت هذه الفرقة احتلال العالم: بيورن، بيني، آني ــ فْريد وأنييتا، شابان موهوبان في الكتابة والتأليف، وفتاتان كل منهما تتمتع بصوت مختلف عن صوت الأخرى، لكن المشترك هو النقاء والنبرة الحسنة، ولو بدون قدرات خارقة. كل منهم كان له بدايات فنية خجولة، إلى أن اجتمعوا حيث تزوّج بيورن وآنييتا عام 1971 ثم بيني و«فريدا» عام 1978. إنها الخلطة السحرية لتجربة فنية مبنية على الإلهام المتبادل في صناعة أغنية بوب لطيفة، محترمة، خاصّة وقابلة للانتشار السريع في مرحلة ذروة الانفجار الشبابي والتحرر الاجتماعي الغربي وفائض التعبير الفنّي والموسيقي الذي تلا الستينيات.
قدّمت أغنيات بوب لطيفة، قابلة للانتشار السريع في مرحلة ذروة الانفجار الشبابي والتحرر الاجتماعي الغربي


بين السبعينيات والثمانينيات، حصلت خلاصات كل ما شهده مجتمع ما بعد الثورة الصناعية، من ويلات وحروب واكتشافات وظلم ومجد ورغد وأزمات اقتصادية واجتماعية، لندخل بعدها جدّياً في مرحلة المعلوماتية في التسعينيات. ABBA هي رمز من رموز مرحلة الخلاصات، تماماً مثل منافستها «السوداء» في النمط والشهرة، Bonny M. إنها رمزٌ أمين لتلك المرحلة، إذ مع تبدّي إشارات المرحلة المقبلة، قرّرت ABBA أن تضع كابلاتها وميكروفوناتها وآلاتها وأزياءها وشعاراتها وأضواءها في صندوق الاعتزال لتنقله إلى قبو التاريخ، حيث غطّاه بسرعة قياسية غبارٌ حملته رياحٌ من صحراء الاستهلاك والانحطاط. فالفرقة لا تحمل مشروعاً موسيقياً متيناً يتلقى الضربات ويردّها إبداعاً. هي هشّة أمام المتغيّرات الكبيرة، والجمهور الشبابي ظالم رغماً عنه، إذ تقولِب ذائقته عموماً، مصالح المنتجين الكبار. مع ذلك، ما لم تستطع الفرقة وضعه في الصندوق هو باقة من أشهر أغانيها، صدرت تحت عنوان ABBA - Gold ظلّت تحقق انتشاراً واسعاً، ونقَلها الأهل للأولاد بسلاسة.
تأسست الفرقة عام 1972 وحُلَّت عام 1983. صنعت أشهر أغنيات تلك المرحلة وباعت إصداراتها بالملايين وشكّلت حالة عالمية بين الشباب. الحب الذي نتج عنه زواج بين أعضاء الفرقة وشكّل دينامو العلاقة بينهم في صناعة الأغاني الناجحة، تحوّل إلى مشاكل نتج عنها طلاق وإنهاء للتجربة المشتركة الفريدة، فذهب كلٌّ في سبيله (باستثناء لقاء علني عابر عام 2016). غابت ABBA فتحوّلت إلى ظاهرة تستنسخها فرق أخرى وجُمِعَت ذكرياتها ومقتنياتها وأزياؤها في متحف شُيِّد على اسمها في استوكهولم عام 2013. في عام 1999، اجتمع شابا الفرقة لإنجاز Mamma Mia، المسرحية الغنائية المبنية على تجربة فرقتهم وعلى نصّ لكاترين جونسون (أخرجتها فيليديا لُويد)، فلاقى العمل نجاحاً كبيراً انطلق من بريطانيا وجال على مسارح العالم في عشرات الدول، مروراً بمكانها «الطبيعي» في برودواي، قبل أن تتحوّل إلى فيلم بالعنوان نفسه عام 2008 (إخراج فيليديا لُويد أيضاً). في عام 2018، كان الوقت قد فعل فعله والحنين قد بلغ ذروته، ففتح بيني الاستوديو ودعا «عائلته» القديمة لتسجيل أغنيتَين، فتفاعلت الذكريات لتحوّل الفكرة إلى مشروع ضخم لدى أعضاء فرقة باتوا في سن التقاعد: ألبوم كامل وجولة، بعد أربعة عقود من التقاعد الطوعي (راجع المقال أدناه).



الألبوم والجولة


تتحضّر ABBA لإصدار ألبوم بعنوان Voyage (رحلة) في الخامس من الشهر المقبل. بالنسبة إلى شباب السبعينيات والثمانينيات، إنه الألبوم التاسع لفرقة البوب السويدية، لكنه الألبوم الثاني بالنسبة إلى مراهقي التسعينيات وما بعد. في عام 1992 وبعد نحو عقد من انفراط عقد الفرقة الأسطورية، صدرت باقة من أنجح أغانيها (19 أغنية) تحت عنوان ABBA Gold، فباتت المرجع شبه الوحيد لمن لم يعاصر الألبومات الثمانية حين صدورها.
أغاني ABBA التي تندرج تحت البوب وأحياناً الديسكو (الذي اخترق معظم التجارب الغنائية الشعبية في السبعينيات) وصلت بسهولة إلى الناس، بدءاً من الاعتماد على اللغة الإنكليزية بشكل أساسي، مروراً بالكلمات البسيطة والمباشرة التي تناولت المواضيع العامة غير المرتبطة بحقبة أو مجتمع محدّدَين، وبالموسيقى التي تعتمد على تكرار «موتيف» جذّاب وغير معقّد غالباً في مطلع الأغنيات وعلى جملة لحنية أساسية يُحَضّر لها لتكون ذورة العمل (بالإضافة إلى استعمال «أصوات» كانت جديدة وقتها)، وصولاً إلى الكليبات العفوية حد السذاجة أحياناً. يضاف إلى ذلك الاختلاف بين صوتَي مغنّيتَي الفرقة، آنييتا وآني-فْريد، الذي جعل من كتابة هارمونية عادية بينهما «صوتاً» ملفتاً ومستحبّاً.
قريباً يصدر «ألبوم العام». ألبوم ABBA الجديد بعد أربعة عقود من الفراق. عنوانه Voyage، ويحوي 10 أغنيات جديدة، صدرت منها اثنتان مطلع الشهر الجاري. الأولى بعنوان I Still Have Faith In You تعدّ لفتة نوستالجيا إلى تاريخ الفرقة ومجدها الأول، وهي نوع من الـ «بالاد» وتؤديها آني-فْريد التي ما زالت تحافظ على صوتها المعهود رغم استشعار المستمع للضعف الطفيف الذي أصابه. الثانية بعنوان Don't Shut Me Down تؤديها آنييتا (بكامل لياقتها الصوتية) وتُستهَل بمقدمة هادئة قبل أن تتحول إلى النبض الراقص. الأمر الملفت في الأغنيتَين، وربما ينطبق على الألبوم بكامله، هو تطابق هاتين الأغنيتَين مع النفَس القديم للفرقة، من النص إلى اللحن ومساراته والتوزيع الموسيقي كما الغناء الداعم للمؤدي الرئيسي، وحتى الكليب المصوَّر للأغنيتين لا يشبه التوجه العام الرائج في هذا المجال اليوم. وفي هذا السياق، صرّح بيني أنه لا يفهم الأدوات التي تصنع بها الأغنية المعاصرة، لذا فضّل استخدام عدّته التي يتقن جيداً التعامل معها.
الألبوم الذي سيصدر بكل الأشكال الممكنة (حتى على كاسيت!) وسيحوي أغنية ميلادية، تنطلق في أيار (مايو) المقبل الجولة الخاصة به. إنها حدث ثوري تكنولوجياً، إذ سيشاهد الجمهور فرقته لا «بشكلها» الحالي، بل كما كانت في عزّها أواخر السبعينيات، إذ خضع الرباعي لجلسات طويلة من تسجيل كل حركة قد يقومون بها على المسرح، في عملية استغرقت أسابيع لإنجازها، ليُصار بعدها إلى تصميم الـ«هولوغرامات» التي ستحيي الحفلات الرقمية بدلاً من أعضاء الفرقة الحقيقيين، لكن مع مرافقة موسيقية حيّة لفرقة من عشرة موسيقيين. البداية ستكون من لندن حيث تمّ تجهيز مكان خاص بالحدث وسيحضره نحو 3000 شخص، وبعد ذلك تبدأ الجولة العالمية التي لم تعرف تفاصيلها بعد.