أغلق صاحب مكتبة «نوبل» محلّه، وانسحب بهدوء نحو بيته. ليس كما اعتاد أن يفعل كلّ يوم منذ أكثر من خمسين عاماً. إنما هذه المرة للتقاعد الدائم. لا نعرف إذا كانت المصادفة بأن يكون هذا الإقفال النهائي في خريف الكآبة المزمن الذي نعيشه، تحت سطوة أخبار شيّدت خلافاً أزلياً مع الفرح، وأرادت أن تنتقم منه بقسوة مفرطة تحديداً في بلاد الشام! ربما ترك صاحب المكتبة لوحة معلّقة على باب محلّه يقول فيها: «استمتعوا بهواتفكم النتنة! كما دوّنت جريدة «إكسبرس» الأميركية التابعة لـ «واشنطن بوست» في عددها الأخير قبل أن تغلق نهائياً قبيل عامين! سيحتاج المشهد حتى تكتمل فداحته صوت الخال عبد الرحمن الأبنودي، وهو يتلو رائعته الصعيدية «آمنة». فعلاً يبدو إغلاق مكتبة أو معلم ثقافي في مدينة منكوبة، بمثابة تشييع مهيب لكوكبة من الشخصيات العزيزة على من تبقى من سكان هذه البلاد! الأمر ليس مرتبطاً بمن قرأ من هذه المكتبة، أو من كان يتعامل معها. البسطات المفروشة منذ عمر كامل تحت جسر الرئيس، وجسر فكتوريا، وشارع الحلبوني.. هي الملاذ الفعلي لمن كان يقرأ من الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة التي أجهزت عليها الحرب.قبلّ أيّام، كان علينا أن نفلّي مكتبات دمشق للعثور على نسخة أخيرة، لواحد من أهم الشعراء السوريين المعاصرين، وبالمصادفة تمكّنت مكتبة «النوري» من نبش نسخة من ديوانه الوحيد «كورتاج» للشاعر الراحل إياد شاهين. رغم أننا كنا قد استعنا بـ «دار كنعان للنشر» ومصممها باسم صبّاغ، فأمّن لنا عن طريق ابنة الشاعر الراحل نسخة PDF، فيما روى لنا أحد أطباء دمشق المصاب بمسّ البحث العلمي الدائم، عن واجهات المكتبات التي صدمته بعناوين عن الأبراج والحظّ وخفض الوزن.
المقصود من الحديث كلّه، بأن مزاج العاملين في المكتبات العريقة في دمشق، ربما بات يمشي بحذر ووجل شديدين وبدون أدنى مقومات الحماس للمواظبة على الشغل أصلاً، كرجل طاعن في السن استنفد كلّ رغباته في البقاء، أو مثل مجموعة من العسكر المحاصرين على جبهة مفتوحة وقد انقطعت عنهم الذخيرة والمؤن! لا طائل أمام هؤلاء للاستمرار. يكفيهم أن يفعلوا ما نُصح به المغني السوري بشّار زرقان! يوم لبى محمود درويش دعوته مفتتحاً له «دارة زرقان للثقافة» التي زارها أدونيس أيضاً. يومها قيل للمغني الصوفي: ضع سيخ شاورما أربح لك، مشروعك خاسر قطعاً، وستضطر أن تغلقه بعد فترة. وهذا ما حصل. باع الرجل بيته الدمشقي القديم الذي كان مكان الدارة، واشترى واحداً أصغر منه ولم يكمل المشوار! طبعاً علي وحسين الديك وبهاء اليوسف وحسام جنيد ضرورة قصوى بالنسبة لبلادنا، أكثر من الغناء الصوفي وأيّ مشاريع ثقافية جوهرية تغني الذائقة العامة وتحميها من الترّنح الحاصل اليوم. مختصر القول بأن مكتبة مثل «نوبل» على وضعها قبل أن تغلق كانت مجرّد فولكلور ثقافي، لا يمكن في هذا الظرف الحياتي ومنطق التكنولوجيا الذي أتاح كل شيء بكبسة زر أن يستمر من دون رعاية حكومية للمكتبات والمعارض الثقافية والحالة الفنية عموماً.
هل قلت رعاية حكومية لكتاب؟! الجموع على الطابور ستصرخ: نريد خبزاً ومازوتاً وأرزاً وحليب أطفال، وسلّم لي على «نوبل»!