القاهرة | قيل عنه إنّه الجيل المنفصل عن ماضيه. وقيل أيضاً إنّه جيل بلا أصل ولا هويّة محددة، يعبث في حاضره وظروفه العصيبة من دون الإنصات لصوت الحكمة الذي ــ في اعتقاد كثيرين ــ يحتكره كبار السِّن ممن أنهكهم الزمن. إنّه جيل الفنّانين والمبدعين الشباب الحالي المتهم دائماً بكل التهم السالف ذكرها رغم أنه كان في قلب الثورات والحركات التحررية التي برزت أخيراً في العالم العربي، ورغم أنه أيضاً الجيل الذي اعتاد النبش في الماضي ربما ليجد فيه مؤشراً إلى مستقبله.
قبل أيام قليلة من تنحّي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك إثر «ثورة 25 يناير» ضد نظامه الفاسد، خرج علينا شابٌ يُدعى مصطفى سعيد (1983) ليغنّي بكلمات الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي (1977) قائلاً: «يا مصر هانت وبانت كلّها كام يوم». بشّر الجميع باقتراب الحسم، معلناً نفسه كفنان ينتمي إلى هذا الجيل الذي اعتاد النبش في الماضي لإعادة تقديمه بشكل معاصر وحديث، لكننا هنا بصدد تجربة فنيّة مختلفة.
صاحب أغنية «منصورة يا مصر» هو مدير «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» الذي كرّس أغلب جهده لإعادة النظر في التراث الموسيقي العربي وترميم ما يمكن ترميمه من اسطوانات وتسجيلات قديمة وتقديمها بجودة عالية، إلى جانب الغناء والتلحين والعزف.
عمله الذي يتعامل بشكل حَرفيّ مع التراث ويعيد تقديمه بجودة صوتية أفضل، ربما هو انعكاس مادّي لما يقوم به من إعادة تقديم الموسيقى العربيّة بشكل مجدد لكن على حد قوله عن نفسه: «أنا أقوم بتجديد القوالب الموسيقيّة من الداخل». ويضيف مصطفى سعيد: «توقّف تقدّم الموسيقى العربيّة من الداخل، في ما عدا الإنشاد الديني خلال القرن العشرين». والآن، وهو منكب على تقديم مشروعه الجديد بالتعاون مجدداً مع تميم البرغوثي، يتجلّى أمام الجميع الشكل الواضح لما يريده من تجديد، ليس فقط في شكل الفن، لكن في مضمونه وكيفية تناول ما تناوله القدماء بشكل حديث من خلال تقديمه لـ«البردة». على نهج محمد بن سعيد البوصيري أحد أبرز شعراء القرن الحادي عشر، كتب البرغوثي «البردة». والأخيرة هي إحدى أشهر قصائد المدح النبوي، كتبها البوصيري في القرن الحادي عشر الميلادي (معروفة أيضاً باسم «الكواكب الدريّة في مدح خير البرية») وسط إجماع على أنّها من أفضل ما كُتب في هذا الشأن. قال عنها الأديب والناقد الراحل زكي مبارك بأنّها التي جعلت البوصيري الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، مضيفاً أنّ «لقصيدته أثراً في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق. عن البردة، تلقّى الناس طوائف من الألفاظ والتعبيرات التي أثرت في لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبواباً من السيرة النبويّة. وعن البردة، تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال. وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلاميّة، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول». لاحقاً، كتب الشاعر أحمد شوقي قصيدة على النهج نفسه أحدثت ثورة في عالم القصيدة وقتذاك. وقد قام رياض السنباطي بتلحينها و«كوكب الشرق» أم كلثوم بغنائها.
بعد مرور أكثر من نصف قرن، ها هو تميم البرغوثي يكتب بردته الخاصة، ويلحّنها المؤلف والفنان المصري الشاب مصطفى سعيد، وتقدّمها مجموعة «أصيل» الليلة في «مسرح المدينة» (مصطفى سعيد/ غناء فردي وعود وقيادة غسان سحاب/ قانون وبطانة ومحمد عنتر/ ناي وجس ترنبل/ تنبك وأسامة عبد الفتاح/ عود وشاه وبطانة وبلال بيطار/ سنطور وبطانة وعبد الرضى قبيسي/ طنبور وبزق وبطانة وخليل البابا/ كمان وفرح قدّور/ عود حاد (سوبرانو) وبطانة ورضى بيطار/ كمان أوسط (فيولا) وماريا ريجو/ كمان كبير (تشيللو) وبطانة وعلي الحوت/ رق وبطانة).
في هذا الصدد يقول سعيد: «بعد توقّف الموسيقى العربية عن التطور من داخلها خلال القرن الماضي، كان لا بد من إعادة التجارب الكلاسيكية بشكل متطوّر وملائم للعصر الحالي». وقد لحّن سعيد البردة كوصلة سماع، مع التزام مضمون وصلة السماع وليس شكلها. يقول: «وصلة السماع أو وصلة المقام مجموعة من القوالب المرتبطة ببعضها» مضيفاً أن البردة لا تحوي قالباً واحداً معروفاً وثابتاً سواء موسيقيّاً أو غنائيّاً من منطلق أن القوالب الفنيّة هي صنيعة البشر. أمّا النظام الموسيقي المقامي، فهو نتاج تراكم الحضارات.
ستقدّم «أصيل» البردة للمرة الأولى الليلة في بيروت بحضور تميم البرغوثي الذي يفتتح الأمسية بتلاوة بردته كاملة ويليها دخول المجموعة لتقديمها مغنّاة.

* «بردة» لتميم البرغوثي ومصطفى سعيد ومجموعة «أصيل»: 20:00 مساء اليوم ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/753010




مجموعة أصيل

انطلقت مجموعة «أصيل» في عام 2003 بهدف تقديم موسيقى عربيّة جدية معاصرة على مبدأ التطوير من الداخل، أي الاعتماد على التراث والعطاء الموجود لدينا وليس لإعادة أدائه. لغاية اليوم، سجّلت الفرقة التي أسسها مصطفى سعيد إصدارين موسيقيّين هما «رباعيات الخيام» (2008)، و«أصيل ـــ تأليف جديد من صلب التقليد» (2009) تميزا بكثرة الآلات (بالنسبة إلى المدرسة التقليدية التي تحبذ محدودية الآلات) والغنى الإيقاعي الذي يسيطر على نهج مصطفى سعيد كملحن موسيقي.