درس مصطفى سعيد الموسيقى على يد المنشدين المشايخ في مصر، بعدما كان قد بدأ دراسة الإنشاد في الرابعة من عمره. هو ينتمي إلى المدرسة التقليدية التي نشأت في ذروة العصر العباسي، وأعيد تطويرها في عصر النهضة بفضل الصداقة التي جمعت الإمام محمد عبده (1849 ــ 1905)، مفتي الديار المصرية، والمرنّم والملحّن عبده الحامولي (1843 ــ 1901)، مطرب البلاط المصري. أجرى هذان المجدِّدان إصلاحات متوائمة، وتطويرين ينبثقان من الداخل ولا يستنسخان من الخارج أي قوالب فكرية أو فنية جاهزة. الأوّل عمل في شق الفقه والفكر الإسلامي، والثاني في ميدان الموسيقى المصرية.
درّس سعيد الفن الحداثي في عزف العود في «بيت العود» في مصر ثم انتقل إلى لبنان عام 2004 بعدما تعرف إلى العالم الموسيقي اللبناني نداء أبو مراد من خلال قراءة كتابته واستماع لموسيقاه، فوجد لديه هماً موسيقياً مشابهاً؛ هو التطوير من الداخل.
تحت إشراف أبو مراد، تابع دراسة علم الموسيقى ليحوز ماجستير في التقاليد الموسيقية المشرقية من المعهد الانطوني في الجامعة الأنطونية في بعبدا، ودرّس العود وفن الارتجال، (غناءً أو عزفاً، منفرداً أو داخل تخت شرقي)، وهو الأسلوب التعليمي الوحيد في لبنان الذي لا يعتمد على التلقين الموسيقي. وتولى سعيد إدارة AMAR في لبنان، وهو مركز بحث وأرشفة للموسيقى الشرقية. وكان قد أنشأ فرقة «أصيل»، بقيادته وضمت نخبة من الموسيقيين الجديين، الذين درسوا الموسيقى بشقيها النظري والأدائي. حملوا الراية ذاتها: راية التجديد من الداخل واستثمار الفن المقامي المشرقي.

رافق القصيدة أربعة مقامات وتعرضت لكثير من التقلبات

التقت هذه الرؤية مع أسلوب الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي في «بُردة» المعاصرة التي كتبها عام 2010 ولم تنشر إلا عام 2013. يقول البرغوثي بأنّ المديح النبوي هو «بحث عن السماء في الأرض، عن الجليل في اليومي، عن الإلهي في البشري، عن الشعر في النثر، عن الجمال في الصعوبة، عن الباقي في العابر، عن النبوة في الناس، وعن المعنى في التاريخ». خرج الشاعر «خروجاً صريحاً على مدرسة في الشعر العربي، ترى التراث عبئاً عليها بدلاً من أن يكون سنداً لها»، وهي كما يشير «تقابل في الآداب، الدولة الحديثة التي بناها الاستعمار في السياسة».
تعود كلمات البردة إلى قصيدتين تاريخيتين: أولاهما لمحمد بن سعيد البوصيري (1213ــ 1295) الذي يقال بأنه أصيب بفالج، فرأى النبي في المنام يلف عليه بردته (أي عباءته)، فكتب على إثر ذلك قصيدة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» وسميت بـ«البردة». أما «نهج البردة» لأحمد شوقي فكتبت في اواخر القرن التاسع عشر، كمعارضة من الأخير لقصيدة البوصيري (أي أعجب بها وألّف منها قصيدة على الوزن والقافية والموضوع نفسها).
تميم البرغوثي الذي عارض بدوره القصيدتين، يبني مقاربة تاريخية تطرح ثلاثة أزمنة من النضال والاستعمار والعواطف الوطنية المستنزفة في بردته. شاعرنا الأول مغربي أمازيغي عاش في مصر، وشهد إهداء القدس من الملك الكامل محمد بن الملك إلى صديقه فرديريك هوهنستاوفن، قبل أن «يستعيدها الخوارزميون القادمون من شرق إيران عام 1244» كما يشير البرغوثي، ثم شهد سقوط بغداد في يد المغول عام 1258 وأقاموا فيها جرائم، قاربت ببشاعتها جرائم الأميركيين المعاصرة فيها. وشاعرنا الثاني كردي عاش في مصر، شهد الانتداب الفرنسي والإيطالي والبريطاني. والثالث فلسطيني شهد سقوط القدس والاجتياح الإسرائيلي للبنان والحربين الأميركيتين على العراق اللتين يقول عنهما البرغوثي بأنّهما «علّما العالم كله بأن الحزن ترف وأن الرضا بالطغاة ترف، وأن الحروب الأهلية ترف، وأن الفتنة الطائفية ترف. عدونا أقوى امبرطورية في العالم، فإما أن تكون لمقاومتها أولوية على كل شيء وإما الموت العمم».
ما يميّز «بردة» أنّ مصطفى سعيد لم يستعمل أي قالب في تلحينها، بل لجأ إلى بعض الحركات التي تنشأ في القوالب التقليدية كالقصيدة الموقّعة، والتحميلة. لحنياً، رافق القصيدة أربعة مقامات، بدأت بالبيات، ثم السيكاه ثم الجهاركاه ثم النوا، غير أنها تعرضت للكثير من التقلبات المقامية في إطار المقام الأساسي الواحد، ونرى في أدائه الغنائي، تجدداً عصرياً يأخذنا بين الشجن والكوميديا المعاصرين إلى يومنا هذا.