في «لا وقت للموت»، الفيلم الخامس والعشرون في سلسلة أفلام جيمس بوند، يحاول القائمون على إدارة «الفرانشايز» إجراء عملية تأهيل اجتماعي لشخصية العميل 007 والجاسوس الشهير في خدمة استخبارات جلالة ملكة بريطانيا بوصفه قادراً أيضاً على عيش الحب والرومانسيّة وأجواء العائلة في موازاة شهيته الدائمة للقتل ومطاردات السيارات والنساء. ولكنّ المحاولة بدت شديدة الابتذال اجترّت كليشيهاته السياسية الساذجة ذاتها، وأساءت لبنية الشخصية كما أرادها إيان فيلمنغ مؤلف الروايات الأصليّة. هكذا، تحوّلت إلى ما يشبه مباراة اعتزال استعراضيّة مملّة للممثل البريطاني دانيال كريغ الذي اختتم بهذا الفيلم مرحلة بوند القرن الحادي والعشرين، وخامس أفلامه الشخصيّة ضمن الفرانشايز
انتظر جمهور جيمس بوند عميل المخابرات البريطانيّة الشهير ست سنوات قبل الإفراج عن الفيلم الخامس والعشرين له منذ اقتباس شخصيته عن سلسلة روايات جاسوسيّة كتبها إيان فيلمنغ خلال الستينيّات من القرن الماضي. فترة أطول من المألوف للفرانشايزات السينمائيّة، لكنّ الانتظار كان له ما يبرره، فـ «لا وقت للموت» هو آخر ما سيقدمه الممثل البريطاني دانيال كريغ الذي صار اسمه صنواً لجيمس بوند في القرن الحادي والعشرين (أولها في «كازينو رويال» - 2007، وخامسها الفيلم الحالي). كما أنّ الشخصيّة الخارقة المتعجرفة المتحذلقة لزير نساء ينتصر دائماً على أعداء بريطانيا والديمقراطيّة، لم تعد مقنعة للجيل الجديد الذي أصبح ينظر إلى الشخصية كأنها لقى أثريّة من بقايا القرن العشرين، تثير الضحك أكثر مما قد تحمله من مضامين ثقافيّة أو سياسيّة أو حتى ترفيهيّة. ولم تساعد جائحة كوفيد 19 كذلك، فالفيلم كان جاهزاً للعرض منذ نيسان (أبريل) 2020 قبل تأجيل إطلاقه بسبب موجة إغلاق صالات السينما ضمن إجراءات العزل في بريطانيا وعدد من دول العالم.
من الواضح أن المبدعين وراء «الفرانشايز» (شركة أميركيّة) بذلوا كثيراً من الجهد والوقت في التفكير بكيفيّة إعادة تشكيل شخصيّة العميل المشحونة سياسيّاً كرمز بريطاني (إنكليزي) محض، (يعتبره بعض النقّد دلالة متنقلة يمكن من خلالها مراقبة ومعالجة التحولات التي حدثت في السياسة والاجتماع والثقافة البريطانية من فترة ما بعد الحرب حتى فترة ما بعد الألفية مباشرة) مفرطة الذكوريّة، والمعتمدة أساساً على خدع الحركة ومشاهد مطاردة السيارات والانتصارات الجنسيّة. يظهر بوند في القصّة الجديدة (إخراج كاري جوجي فوكوناغا) متقاعداً أعزب يعيش حياة هادئة في جامايكا بعد خمس سنوات من انفصاله المفاجئ عن صديقته مادلين (ليا ساندو) وتركه العمل مع المخابرات البريطانيّة. صديقه القديم من وكالة المخابرات المركزية الأميركيّة فيليكس ليتر (جيفري رايت) يورطه في التعرّف إلى عميل أميركي آخر بالوما (آنا دي أرماس) للمشاركة في مهمّة سريّة تستهدف تتبع عالم حرب بيولوجية متقدّمة كان قد اختُطف من قبل منظمة «سبيكتر» الإجراميّة الغامضة التي يقودها ليوتيفر سافين (رامي مالك)، ويبحث عنه البريطانيون والأميركيّون معاً. يتبيّن لاحقاً أنّ الأشرار يعدّون لبناء ترسانة سلاح قنابل فيروسيّة ذكيّة يسمى «هيراكليس» تستهدف الأشخاص بحسب بينتهم الجينيّة، مما يعني سهولة اصطياد أشخاص محددين بدون المخاطرة في إيقاع خسائر عرضيّة جانبيّة، وربما أيضاً التطهير العرقي على مستوى المجموعات. وكما هو متوقع، يُرسَل بوند في مهمّة للمخابرات البريطانيّة ستكون الأخيرة لإنقاذ البشرية من مشروع «هيراكليس» وتدميره بالكامل قبل أن يدرك الصينيون واليابانيون والأميركيون والروس ما يجري.
أمبرتو إيكو كان أهم من حلّل روايات بوند


لكن يبدو أن نتيجة عمل فريق بوند كما في «لا وقت للموت» انتهت إلى تحطيم الملامح الأساسية للشخصيّة التي أحبها الجمهور رغم كل مبالغاتها ومثالبها. إذ أُعيد تقديم بوند بعد عمليّة تجميل شاملة: مدجناً، يُجرّ إلى معارك بريطانيا الدوليّة جرّاً، ويغرق في مشاعر حب حقيقيّة، ويبكي ضعفاً ويتألّم، ويحلم بزوجة وأسرة وبيت في قرية عزلاء منسية. هذه الاستراتيجيّة بدت كأنّها استنفدت عناصر الجذب الأساسيّة للشخصيّة التي أبدعها إيان فليمنغ في ستينيات القرن الماضي، ولقيت دوماً صدى عند الذكور ذوي البشرة البيضاء من الطبقة الوسطى تحديداً كشكل من أشكال الترفيه التي ترضي غرورهم الساذج. كما سقطت في فخ ابتذال الكليشيهات والقوالب، وأنتجت 163 دقيقة من الملل ومشاهد الأكشن المتوقعة في ما يشبه مباراة اعتزال استعراضيّة وديّة منزوعة الدسم في وداع دانيال كريغ. لكن إعادة تكوين الشخصيّة أو تشويهها بعمليّات التجميل، ليست دائماً أفضل الحلول للتعامل مع واقع أن تلك الشخصيّة أفلست، ولم تعد جذّابة للجماهير أو مناسبة للعصر، وحان وقت إكرامها بدفنها. ببساطة، فإنّ مالكي ماركة بوند التجاريّة حاولوا جاهدين حقن الشخصيّة الصنم لبوند بهرمونات أستروجين في محاولة عبثيّة لضخّ معنى ما في «الفرانشايز». ولكم من قال لهم إنّ أحداً يأخذ بوند أصلاً على محمل الجدّ؟
بوند ـــ بحسب مبدع الشخصيّة إيان فليمنغ ــــ لم يكن متوقعاً له أن يعامَل يوماً بأكثر من كونه ترفيهاً محضاً تُقرأ قصصه وتُشاهد لمجرّد التسلية بدون محاولة تحميله أيّ معان سايكولوجيّة عميقة أو مضامين سياسيّة. وقد وصف فليمنغ رواياته (1963) بأنها ليست لسان الشباب الإنكليزي الغاضب ولا تحمل أيّ أمل أو رسالة بشأن معاناة البشر. «لقد وضعت كتبي لتسلية أولئك الشبان المفتخرين بذكوريتهم الذين تجدهم في محطات القطار، أو في المطارات وملاعب كرة القدم». وبالفعل، فإنّ نقّاداً بريطانيين كباراً انتقدوا روايات فليمنغ، واعتبر أحدهم (بول جونسون) بأنّ بوند «شخصيّة غير سويّة، إنكليزي تام بكل ساديّة صبيّ متنمّر، ميكانيكيّ السلوك، عديم العمق ببعدين أحدهما تفاقم الشهوات الجنسيّة لمراهق محبط، وذلك الميل الخام لدى أبناء الأطراف لتذوّق ملذّات الحياة البرجوازية الفارهة بدون بذل الجهد لنيلها»، وبأنّه بطل يليق بالثقافة الشعبيّة السائدة في بريطانيا بعد الحرب العالميّة الثانية... فيما وصف الناقد الأميركي فلمينغ نفسه بأنّه «حكواتي» وبائع كلام، واحتقره اليساريّون كونه برجوازيّاً فاسداً سقفه كليشيهات البروباغندا الأنغلوفونيّة ضد الدول الاشتراكية. والحقيقة أنّ النقّاد الأدبيّين لم يهتموا لروايات فليمنغ قبل تحويلها إلى أعمال سينمائيّة (أوّلها «دكتور نو»/ 1962 من بطولة شون كونري)، وإن كان الاهتمام تركّز على بوند الروايات، لا بوند الأفلام الذي اعتُبر دائماً نموذجاً شاحباً عن الشخصيّة التي كتبها فليمنغ. ولعل أمبرتو إيكو ـــ الروائي الشهير وعالم السيميائيّات والرّموز ــــ كان أهم مَن حلّل مجموع روايات بوند من خلال البحث عن هيكليّة مشتركة تجمعها. رسمها بدّقة كما لو كانت وصفة طبخ لا بدّ من اتّباعها بخطوات متتابعة للحصول على رواية أو فيلم جديد لبوند، زاعماً أن هذه الوصفة المحددة هي سرّ جماهيريّة الشخصيّة، و«يعود إليها الجمهور مرّة بعد مرّة وهو يتوقع سلفاً مساراتها الأساسيّة من الثنائيّات المتعارضة الساذجة التي لا مفاجآت فيها ولا تعقيد فكري» (بوند الخيّر ضد شخصيّة عدّوه الشرير، بوند الذّكر الفائر مقابل الأنثى المثيرة، بوند الساخر مقابل مديره الجاد، بريطانيا العظيمة في مواجهة «الأوغاد» من الروس والكوبيّين والألمان الشرقيين، بوند الأبيض ذو العينين الزرقاوين الصافيتين في مواجهة الملونين «البشعين»، التكنولوجيا الغربيّة الذكيّة في مواجهة التكنولوجيا الشرقيّة «الغبيّة» وهكذا) مما يجعلها مساحة هروب مثاليّة للترفيه عن الكتل الشعبيّة.
هذا كلّه بالطبع لا يعني أن النسخة الأخيرة من بوند تخلو من الخدع التصويرية الجميلة، كما بعض المشاهد الطبيعية الرائعة في إيطاليا أو أجواء هافانا، كأنها ماخور أميركيّ زمن ما قبل الثورة، رغم أنّ جدارية لتشي غيفارا تُلمح أثناء تبادل لإطلاق النّار. كذلك، تقدّم الطفلة التي يكتشف بوند لاحقاً أنها ابنته أداء لطيفاً للغاية. مع ذلك، فإن الاستعراضيّة البريطانيّة الفجّة وبوند (الناعم) وحدود اللعب المحددة سلفاً، تعيدنا دائماً إلى مربّع الملل، وتجدّد تذكيرنا بأن وقت كريغ، كما وقت بوند قد انتهيا بالفعل، وأنّ ما من سبب حقيقي للاستمرار بمتابعة «الفرانشايز» ككل.
مع انتهاء مرحلة دانيال كريغ، هل من عودة قريبة لبوند؟ «لا وقت للموت» ينبئ، على مستوى الشخصيّة وحالة العمل الفنيّ، بضرورة إغلاق ملف العميل 007 نهائياً، إذ لم يعد لديه ما يقدّمه. لكنّ مالكي الحقوق الفكريّة للشخصيّة - كحال أيّ رأسماليّ جشع - ليسوا بوارد الاقتناع بذلك في وقت قريب. من الواضح أنّهم يبحثون عن صيغة جديدة للاستمرار في استدرار بقرتهم الحلوب (فاق دخل فيلم الأخير لبوند قبل «لا وقت للموت» المليار دولار أميركي) وتمديد عمر ماركتهم التجاريّة في فترة ما بعد كوفيد 19. ربما تأخذ شكل عميل جديد يرث لقب 007، قد يكون أسود البشرة، أو حتى امرأة للتخلّص من وصمات بوند الذكوريّة والعنصريّة الأبديّة، مع إمكان النظّر في الانتقال من قاعات السينما (إن لم تستعد سابق مجدها كما كان قبل الجائحة) إلى فضاء الستريمنغ على نتفليكس وأخواتها. لكن تلك ستكون كما قفزة في ظلام دامس.


No time to die
في الصالات اللبنانية