الورش الكتابية التي يديرها «دار المجمع الإبداعي» بإشراف الكاتب عبد الرحمن الجاسم، يصح وصفها بالتجربة المغامراتية التي تستضيف مواهب شابة، في مجالات الكتابة والميديا، وتسعى لتكون منصة أدبية إبداعية متقدمة بحيث بات لديها أكثر من عشرين كتاباً لخمسة أجيال من المؤلفين يخوضون غمار الكتابة القصصية من ألفها إلى يائها، سعياً منهم لإعلان الصوت، أنّ جيلاً جديداً يهوى الكتابة القصصية ويعمل على بلورتها، قد ولد هنا في قلب الضاحية. لكن أن توضع هذه التجربة الجريئة، كخلاصة نهائية، وحكم مبرم، يلغي ما عداها من كتابات إبداعية معاصرة، فهو بحد ذاته ادعاء مجحف بحق هذه التجربة الشبابية أولاً، وبحق «دار المجمع الإبداعي» ثانياً، وبحق الكتابة الإبداعية المعاصرة أيضاً. من هنا أدخل إلى جملة مغالطات وردت في مقالة الكاتب عبد الرحمن الجاسم «مانيفستو الكتابة الإبداعية لماذا الآن» منها ما يتعلق بماهية الكتابة الروائية، وأدواتها ولغتها، ومنها ما يتعلق بطبيعة الكتابة الإبداعية التي ترفض منطق التعميم والإلغاء والاحتكار. ويمكن القول إنّ التعميم كان السمة الرئيسة التي اتصفت بها لغة المقال، إذ أطلق الكاتب رؤاه الخاصة كأنها نظريات أدبية ثابتة في توصيف الإبداع الأدبي، بدءاً من قوله «أنّ استعمال الطباق والجناس كمحسنات لغوية صارت ضرباً من الماضي، لا تتلاءم ومقتضيات الكتابة الواقعية»، ضارباً بعرض الحائط كل الكتابات المعاصرة التي تحاكي الواقع وتتخذ في الوقت عينه من الطباق والجناس أدواتها الترميزية الدالة. فكتابة الواقع كما هو، لا يعني البتة، إعدام حالة المتخيل الأدبي، إذ إنّ عالم الكتابة الإبداعية، كما يشير بيرسي لوبوك، «سرعان ما تنسجم بين طياته الوقائع، بوصفها إحالات مرجعية للكتابة، والخيال بوصفه المحفّز لذهن القارئ على التأويل، بهدف خلق آلية الكشف المنظم عن مديات ذاك الخيال ومديات ذاك الواقع». الهدف الأساس من الكتابة الإبداعية، أياً كان جنسها، شعراً أو قصة أو رواية، يكمن في عنصر التأويل الذي يقتضي تلقائياً هذا المزج السحري بين الواقع والخيال. والسؤال الأهم، في أي كتابة إبداعية، يكمن في القصدية والغاية منها. فما هي الغاية من الكتابة الروائية أو القصصية، أليس البحث عن كنه الأشياء كما يقول ميشال بوتور؟! ألا تُمثّل الكتابة الروائية، ذاك الفعل الثوري الرافض في أحايين كثيرة لهذا الواقع أو ذاك؟!
ثمة خيط شفيف، يربط عالم الواقع بعوالم المتخيل، في أي كتابة إبداعية، والكاتب الفذّ، هو الذي يُعمل يده في المشهد الروائي، يُجرده من شظاياه البالية، ويفتحه على الخيال، فيغدو الخيال، والحالة هذه، كأنه يُعيد إنتاج الواقع، وتخليقه في أوضاع جديدة، لم تكن معروفة في الحياة اليومية، بهدف تثمير عنصر التأويل الكامن بين السطور، وجذب القارئ، «العمدة»، وتحفيزه على إقامة روابط وثيقة بينه وبين النص.
ربما قصد الكاتب القول، إنّ ثمة تقنية، تبدو مختلفة لكتابة القصة أو الرواية بين زمن وآخر، لكنّ هذا لا يعني أيضاً، أنّ هذه التقنية، هي وليدة اللحظة، أو أنّها تُجسد قطيعة ثقافية وفكرية مع كل المكتسبات المعرفية التي سبقتها. ففي عالم الرواية والقصة والشعر، كما في باقي الأجناس الأدبية والفنية، ثمة تلاقح ثقافي متجدد متواصل، هو أشبه بخلية الجسم التي تجدد نفسها بنفسها، وحالها كحال اللغة العربية التي تحمل في بذرتها سر نموها ونمائها، متمردة على الموت والأفول، فموت اللغة التي أشار إليها الكاتب في مقاله ينافي سمة التجديد والتغيير القائم. المتمعن مثلاً في نظرية «موت المؤلف» لرولان بارت، يرى أنها ليست وليدة ساعتها، بل هي نتاج فلسفة موت الإله عند نتيشه وموت الإنسان عند فوكو. هي بمعنى من المعاني، نتاج متواصل لحلقة فكرية، ثقافية متأصلة، ثم هل إنّ نظرية موت المؤلف التي ساقها الكاتب في معرض مقاله، تعني إعداماً لهذا المؤلف في بث تصوراته الفكرية ورؤاه، وترك الساحة التأويلية بشكل مطلق للقارئ، ففي الوقت الذي تغيب فيه تصورات أي نظرية معرفية أو فكرية تصبح هي نفسها، جزءاً من الموسوعة النقدية العامة، وبخاصة الموسوعة الإجرائية، وإمكانية الافادة منها تبدو ملحاحة بوصفها محددات كبرى.
يتحدث الكاتب عن لغة مباشرة لا شعرية، لأدب يريد أن يحاكي الناس، يواسيهم. وهذه أيضاً مغالطة إضافية، وقع فيها الرجل، حين نفى عن عالم القصة والرواية، السمة الأبرز لتوافر العناصر الإبداعية الحديثة، فهل التبس الأمر عليه، ليظن، مثلاً أنّ اللغة الشعرية هي لغة حصرية بعالم الشعر فقط؟ هل غاب عن باله أن للقصة والرواية لغة شعرية مختلفة تماماً، وإن كانت تستعير من الشعر طرائقه في التعبير، وهل التبس على الكاتب الأمر، ليظن أنّ أدب الواقع، يتنافى مع الخاصية الشعرية الواجب توافرها في أي نص إبداعي؟!
لعل أهم ملامح الشعرية في الرواية والقصة، يظهر من خلال كسر الترتيب السردي، فك العقدة التقليدية، تحطيم الزمن المستقيم، توسيع دلالة الواقع ليعود إليها، الحلم والأسطورة، فتغدو الكتابة الإبداعية، كأنها ترحيل من عالم الشعر إلى بلاغة الرواية أو القصة، وللحكاية دورها في صوغ شعرية القصة أو الرواية، بوصفها مقطوعة بين زمنين مرتين، هناك زمن الدال وزمن المدلول، إنها ثنائية إدغام زمن بزمن آخر كما يقول جيرار جينيت. وهنا يحضرني سؤال: ما الذي يميز لغة القصة عن اللغة اليومية، إن لم تتضمن سمات شعرية تحاكي الواقع كما تحاكي المتخيل تماماً، بهدف بلورة الصدقية الفنية المفترضة. وكيف لنا أن نميز بين اللغة القصصية من جهة، ولغة التحقيق الصحافي الذي يؤرخ اللحظة وينقل الواقع كما هو، أليس اللغة الشعرية التي هي العامل المائز بينهما؟! ثم من قال إنّ استخدام اللغة اليومية كما هي، تصلح لكتابة القصة أو الرواية أو أي نص إبداعي؟!
الجسارة اللغوية، تتأتى حين يُقدم الكاتب على تحويل اللغة اليومية إلى لغة شعرية، في أي نوع من أنواع الجنس الأدبي، شعراً كان أو قصة أو رواية، ويُعدّ نزار قباني أول من طرق باب اللغة اليومية واستّل منها مفردات الدانتيل والتطريز، وهي مفردات من الواقع المعيوش، تُستخدم في حياكة الأثواب ليحولها إلى لغة شعرية متخيلة مدهشة، يُبرز من خلالها فتنة الأنثى، فغدت مقطوعته الشعرية «كُم الدانتيل»، تحفة شعرية في الغزل الإباحي الناقل للواقع، كما هو. ما يصح في الشعر يصح أيضاً في عالم القصة والرواية التاريخية أيضاً.
المغالطة الأبرز والأخطر التي وقع فيها كاتب المقال، حين قال: «إنّ الهوية ليست للصراع، الهوية صفة المرء وحياته، عاداته وتقاليده». وهنا يحضرني سؤال أيضاً: هل يؤمن «دار المجمع الإبداعي» بهذه النظرية؟وهل يثق بها؟ إذا كان يؤمن أنّ الهوية ليست للصراع، لماذا إذن جاء عنوان الجيل الثالث من المجموعة القصصية للدار «أنا أسكن ضاحية بيروت الجنوبية»، ألا يقع هذا العنوان في صلب الصراع، صراع الهوية القائم على عزل الضاحية، بوصفها عاصمة الموت لا الكتابة والحياة؟
ثم مَن قال إنّ انتفاء صراعية الهوية يحقق فرادة في الكتابة القصصية، ألا تغدو معه الكتابة بلا هدف يرتجى، وهل ثمة تناقض أو تباين بين أن تكون الهوية السردية صفة المرء وحياته عاداته وتقاليده، وبين أن تُثبت الهوية وجودها وكينوتها في هذا المدى الواسع من المعارك الثقافية القائمة على إلغاء الآخر. ألا تُعتبر العادات والتقاليد وصفة المرء وحياته، سمات وجودية، ومحددات ثقافية لصاحبها؟! ثم ماذا يتبقى من الكتابة القصصية الفاقدة للهوية؟!
كيف نوصف الأديب أمين معلوف على سبيل المثال لا الحصر، وهو المحترف في كتابة التاريخ بلغة روائية تحاكي الواقع كما هو. ففي روايته «ليون الأفريقي» (1984)، نجد هذا التركيب السردي الممتع في إشارته لصراع الهوية وأنسنة الفاعل الاجتماعي، هل نخرجه من دائرة الإبداع الروائي لأنه أشار إلى صراعية الهوية. ثم ما هو الهدف من الهوية السردية إن لم تؤشر إلى ذاك الصراع؟
إنّ الهويات تتشكل وتتخذ هيكليتها وفق الرواية والحكاية، في إعادة إنتاج وعي الإنسان وتشكيل ثقافته وشخصيته مجدداً، تشكل الرواية والقصة بالتحديد، دوراً فاعلاً في إعادة رسم هيكل الهوية الثقافية للأجيال، في خضم الصراعات القائمة، وهي تتناغم مع عالم الانثربولوجيا والسياسة إلى حد بعيد. فهل تجوز القصة أو الرواية التي لا تطرح قضية، ولا تُحرك فكر القارئ، ولا تتميز بخصوصية سردية مائزة؟!
يختم الكاتب مقاله بتعميم، يبدو أشدّ قساوة من كل ما سبقه، فيقول: «هل الأدب هو مصور حقيقي دقيق للواقع»، فيجيب هو نفسه نعم. ثم يتبعه بسؤال آخر: هل الأدب العربي مع كتّابه الحاليين مصورون للواقع الحالي، ليجيب بالنفي، كلا. ثم يردف قائلاً هو عصر جديد، لذلك يلزمه أدب وكتّاب جدد تقنيون يشبهون بيئاتهم، في إشارة إلى المجموعة الشبابية في «دار المجمع الإبداعي». بخلاف ذلك يعود الأدب العربي برأي الكاتب لأدب عصر الانحطاط وأدب الهواة والدراويش.
وفي هذا الكلام نسفٌ لكل المنجزات الثقافية التي عرفتها الرواية العربية والقصة في العالم العربي، والمستغرب هنا، أنّ غالبية النصوص الصادرة عن «دار المجمع الإبداعي» يتخذ أصحابها، أقوالاً وأفكاراً، لجملةٍ من كتّاب عرب كبار، اتسمت نصوصهم بمحاكاة الواقع بأبهى حلله، وعُرفوا بالتمرد على الواقع في آن أمثال حنا مينة، إحسان عبد القدوس، غسان كنفاني، محمد الماغوط وغيرهم. وقد شكلت هذه الأفكار المقتبسة، منطلقاً أساسياً للجيل الثالث للدار، ولجوا من خلالها إلى كتابة نصوصهم. وهنا أيضاً سؤالٌ يُطرح: كيف لهذا الدار أن يتنكر للإبداع الكامن في الأدب العربي برمته، وكتّابه أيضاً، وكيف له أن يستخدم أقوال ومآثر هؤلاء الكتّاب، وهذا الأدب، في آن، يلج من خلاله إلى الكتابة القصصية التي يُعلنها «مانيفستو» تُبشر بولادة أدب إبداعي لا يشبه سواه. أليس في هذا تناقض غير مبرر؟ في الساحة الثقافية متسع رحب للتجارب الشبابية على اختلاف مشاربها، فأهلاً بتلك الباقة الشبابية التي تخوض غمار التجريب القصصي، لكن حذار تلك الفخاخ والأشراك التي تُعقد المسير.
وفي الختام أجدني أردد قول الناقد بسام قطوس القائل: «إنّ النظرية الأحدث لا تُلغي النظرية السابقة تماماً، إنما تتجاوز مسلماتها، فتُجدد أفقها المعرفي، وتُنوع في الرؤى والأنظار، هي لا تموت إلا لتحيا وتنبعث من جديد، كأنها العنقاء، ناموسها المعهود، الموت هو البداية».