من التغافل، بل من الظلم التعامل مع قصة جورج باختزال وتحجيم، أي بالنظر الى قضيته من منظور مظلومية الفرد الأسير في معتقلات الديموقراطيات الإمبريالية كما يطلق عليها هو بذاته. جورج رمز، ولفظ الرمز هنا لا يعني الأيقونة، الصورة التي تعلّق على الحوائط ومعرّفات حسابات وسائل التواصل وملصقات جدران المباني. جورج هو الرمز الذي حشر تاريخنا جعبة في صدره، بحيث أن نقرأ تاريخه هو كأن نقرأ تاريخنا نحن.اعتقل جورج عام ثلاثة وثمانين، ولبنان تحت الاجتياح، كانت مصر بالمعنى العملي للصراع منطقة ساقطة عسكرياً، وأيلول أسود كان قد ألقى بظلاله على شرق نهر الأردن، الثورة الفلسطينية في ميلانها السلبي، البورجوازية السورية المشاكسة ــــ كما يعبّر هو ــــ تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه كي لا تصلها نار العربدة الإسرائيلية، ومشاريع التسوية تُهندس سعودياً. تُركت الجماهير العربية ــــ وعلى الأخص شعبنا الفلسطيني ــــ أسيرة العراء، وبدأ جورج سنين أسره.
تاريخنا العربي خطان متوازيان، وكما بتعريف علوم الرياضيات لم ولن يشتركا في أي نقطة. خط موسم التحولات والتبدلات ودفن البنادق في تسعينيات مدريد وأوسلو وشرم الشيخ، وخط الأجساد المتفجرة من عيّاش الى قصير، خط أخشام البنادق في وجه العدو، خط الطلقة في صدر الفاشستي والصهيوني. فأين كان جورج من كل هذا؟
عام 1999، أنهى جورج مدة حكمه المؤبد، يحق له الآن المطالبة بالإفراج المشروط، رُفِض لسبب واضح في نص القرار: «إن الحملات المعادية للإمبريالية والمناهضة لإسرائيل عند السيد عبد الله لم تتغير»، فجورج لم يتغير أو يبدّل. وفي حين كان السلاح يشيّع دون أسى على أكتاف شيوخ النفط، ينقل محاميه قوله لقضاة الاستعمار الفرنسي «لا أعدكم أنتم بأني لن أحمل السلاح». كان جورج في صلب المعركة، في صلب تاريخنا، بل هو تاريخنا اكتسى الوجود المادي، فلم يكن الأسير المحاصر، كان لسان حاله «وأنا أحاصركم.. أحاصركم»، أسوة بكل المقاومين على سبيل تحرير فلسطين. وليثبت أنك كعربي شرط أن تكون حراً، وأينما كنت، فضمن قواعد التاريخ والهوية، ومن خلال كسر موانع المكان وقواعد الجغرافيا فـ«معاركنا معاركها وإن بعدت نواحينا» كما يعبر شاعر يمني مشيراً إلى فلسطين.
من ناحية شخصية، لم أعرف جورج سوى عام 2012، وأنا الذي خرجت للحياة وهو يقضي عامه العاشر في الأسر. ومن على سواحل الخليج وخلال أولى الحلقات التي عرضت تسجيلاً له على قناة «المنار»، ناداني والدي لأشاهدها وليخبرني من هو جورج. فـ«من الخليج الى المحيط، ومن المحيط الى الخليج كانوا يعدّون الجنازة». وأما نحن فنعدّ حياته بيننا في وجداننا، وكتبت علينا مذلّة أننا لم نعمل كل السبل لتحريره.
شارك في الحلقة ذاتها الراحل أنيس النقاش، ووجّه له جورج التحية. لأنيس أدقّ توصيف بلسان الغرب لقصتنا كعرب، والتي يرمز لها جورج: «أن يأتي إنسان ويكون في غير الموضع الذي يريد له الغرب أن يكون، لسان حاله يقول: علمناك في المدارس الفرنسية، ماروني واسمك جورج وماسك لي (حامل) القضية الفلسطينية من شمال لبنان وعامل لي يساري وبدك تقاتل ضد الصهيونية، عم تخربط لي المعادلة يا جورج!». هي قصة التقسيم والتفكيك منذ قرون، قصة الطوائف والانقسام الهوياتي، ومعادلات هندسة إجهاض ولادة هوية عربية، وتجسيد عروبة فلسطين وعروبة مقاومتها كما يخبرنا جورج بنفسه.
لأي متابع للتسجيلات المسربة للرفيق جورج من الأسوار البغيضة كما يسِميها هو، ومن لم يفعل فعليه أن يسمعها. منها تفهم ماذا يعني أن تكون عربياً، فمن منظور تاريخي، أن تكون عربياً بين القرنين العشرين والحادي والعشرين هو أن تكون فلسطينياً. عندما تسمع جورج فأنت تسمع صوت فلسطيني، تسمع صوت العربي الذي يرى كل شيء بعيون فلسطينية، ماذا يعني ذلك؟
لن ترى لجورج كلاماً عن ذاته، وعندما تكلم عن نفسه فقد قال «لا تتسوّلوا حريتي». فعندما يتحدث، يتحدث كفاعل تاريخي لا مفعول به في قعر السجون. يتفاعل مع فلسطين وأحداثها وأسراها الذين من الواضح أنهم يشغلون وجدانه أكثر من أي شيء آخر. من سجنه يتفاعل جورج مع جدلية التحرير. تزيّن مكتبه الصغير صور للشهداء والرفاق والأسرى وليس آخرهم صورة للشهيد الفلسطيني باسل الأعرج. لكن مجدداً ماذا يعني ذلك؟ أو ماذا يقتضي؟ باختصار، فإن هذا يقتضي كل شيء، كلّ الحكاية.
قصتنا نحن كشعب نتعرض لهجمة إمبريالية احتلّت أرضنا وهجّرتنا، والأدهى أنها قسّمتنا إلى هويّات ضيقة، ليختلي الصهاينة بشعبنا الفلسطيني وليطبقوا مشروع إبادتهم فيهم بعزلته، ولتأتي أموال الغاز والنفط لتصطنع لنا القضايا الموازية لا المطابقة، مكسيّة بهويات الفرنسيين والإنكليز من سايكس وبيكو. وعودة لقوانين الرياضيات، فالخطوط المتوازية تتلاقى في نقاط شريطة تطابقها، بأن تتطابق مأساة العربي أينما حلّ.
وهذا تحديداً ما يجعل الصهاينة يلاحقون جورج في كل مفصل، فالذي فعله هذا الرجل العربي هو أنه اختار لنفسه أن يباد فداء لقضيته، أن يُشمل في مشروع الإبادة الصهيونية للفلسطينيين، في سجنه وداخل زنزانته. يموت ببطء وهو الذي بلغ عقده السبعين كعمر القضية. بهذا الخيار والموت، يقف سوراً يحمي بقايا مشروعنا العربي الثوري وليكون لسان حاله:
أنا جورج العربي فليأت الحصار
جسدي هو الأسوار
فليأت الحصار.