«اقترنت بالنور، وأنجبتُ الأجنّةأنا نهر يا حبيبي،
ولا تستطيع إلّا أن تبكي على شاطئي».
كانت إيتل عدنان (1925 ـــ 2021) تشبه تلك الأنهار الربيعية التي تبثّ الشعر في الأرض وترغم الطبيعة أن تكون شاعرية. إنّها روح خضراء تتنفّس شعراً رسماً وتسيل على الورق والقماش من دون مكابدة أو تصنّع أو تكلّف، فتحمل الكلمة ريشة ويحمل اللون قلماً، كأنها ماء النهر يجري من تلقاء نفسه، فيتحول الفضاء بأسره إلى رئة للشعر ومجرى للرسم: ولدت إيتل عدنان ـــ من تقاطعات تشبه تلك التي تَسم الجداول التي تشكّل النهر ـــ عام 1925 من أمّ يونانية أرثوذوكسية من سميرنا، وأب سوري مسلم من دمشق تلقّى تنشئته العسكرية العالية كضابط في الجيش العثماني، إلى جانب مصطفى كمال أتاتورك. جسّدت إيتل أفضل ما يمكن أن يتمخّض عن هذا التقاطع بين الشرق والغرب، وفي فترة حساسة للغاية في تاريخ الشرق عموماً وبلاد الشام على نحو خاص، بين تفكّك الإمبراطورية العثمانية وغليان كل بلدان المنطقة التي فجّر فيها الاستعمار والحروب والحلم القومي المستحيل كل أنواع الخصومات والمناحرات الدينية والثقافية والسياسية ووضعها على فالق الزلازل. أُذُن الفتاة التي انتقلت مع عائلتها إلى بيروت، كانت تسمع في المدينة الكوسموبوليتية كل أنواع الألسنة: من الفرنسية التي تتابع بها دروسها في مدرسة كاثوليكية في بيروت، إلى العربية التي تخاطب بها الأولاد الذين تلعب معهم في الشارع، إلى لكنات وأصوات كردية وأرمنية وشركسية ولهجات لكل الشعوب التي حملت أوطانها وغسيلها الموشّح بالغبار والدم إلى المدينة التي كانت «عاصفة صغيرة من حرب ومتعة. كنا نرى البحر من كل الجهات؛ إنها مدينة متوسطية بسطوح من القرميد الأحمر وبيوت ذات طابع عمراني إيطالي. السيارات وقتها كانت نادرة والشوارع تعبق برائحة الياسمين والبرتقال».

مشهدية حوّلت روح الفتاة الصغيرة إلى ما يشبه السجادة المزركشة بالخطوط الملونة لأكثر من حياة عاشتها، ومصبّاً لكل روافد الفنون: الفن التشكيلي، والأعمال الخزفية، والشعر والرواية والمسرح في تماثل مع بيروت تلك التي كانت تجمع في تناقضاتها الأكثر عالمية إلى الأكثر حميمية. وهو ما أشارت إليه عدنان صراحة في عنوان أحد كتبها La vie est un tissage الصادر في باريس عام 2016، أو أشبه بتلك الدفاتر اليابانية «الليبوريلو» ذوات الطيات العديدة التي اكتشفتها عدنان في سان فرانسيسكو عام 1964 وعرفت مباشرة أنها تشبه روحها في استثنائية التمازج بين الكلمة واللون وانسيابية النهر. كتبت عليها في ما بعد بخط اليد قصائدها ونصوصاً للمتنبي، وأنسي الحاج، وبدر شاكر السياب، ومحمود درويش، وأدونيس، والياس خوري وعيسى مخلوف وغيرهم: «في عام 1964، اكتشفت هذه الدفاتر اليابانية القابلة لطي الأكورديون والتي قام فيها الرسامون اليابانيون بمطابقة الرسومات والنصوص والقصائد... ووجدتها في متجر في سان فرانسيسكو حيث اشتراها الناس لإنجاز ألبومات عائلية. تخيّلت على الفور أن هذا سيكون بديلاً رائعاً للتنسيق المربّع أو المستطيل للصفحة؛ كما لو كنت تكتب النهر نفسه». بُعيد وفاة والدها في أربعينيات القرن الماضي، حصلت إيتل عدنان على منحة لدراسة الفلسفة في «السوربون» حيث سيبدأ وعيها السياسي والثقافي بالتشكّل بعد التعرّف إلى فكر سارتر، والوجودية التي كانت تؤكد إمكانية وجود أخلاقيات بلا ديانة وانبثاق للقيم من الحرية، القيمة الأولى بلا منازع، ما حرّرها من ربقة التعاليم المدرسية الكاثوليكية، فعاشت في السكن الجامعي الأميركي حيث أفادت من فسحة التلاقي بين الجنسيات. والأهم كانت رحلتها القصيرة لباريس التي ستعود إليها لاحقاً للإقامة الدائمة، إذ إنّها أثّرت في إيتل عدنان تأثيراً ثلاثي الأبعاد، فسمحت لها بداية بتشكيل حساسيتها الشعرية «أعشق نافورة مديتشي، لذلك أبطئ الخطى، أتطلّع إليها، ألاحق سطحها المتموّج، أعوم (ذهنياً) مع أسماكها، أقترب بقدر المستطاع من جوهر ظلالها الخضر التي تجعل قلبي يخفق. بعد ذلك، أطير بتمهّل فوقها، مثل فراشة، أمتصّ برودتها حين أتحرك بمحاذاة حواجزها، ثم أصير ماءً، صديقة للماء».
البعد الثاني كان في تتلمذها على غاستون باشلار الذي صاغ نظرية شعرية العناصر التي ستلمس روح الشاعرة والفنانة. هكذا، سيقترن في أعمالها الماء بالنور والتراب والنار «لقد اختفت النار المقدّسة. وهكذا ستفعل باريس. إنهم هنا، يفهمون الرماد. وقلوبنا التي تحوّلت إلى رماد، تجد إناءها في هذه المدينة الدائرية التي قلبها جسر، أليس كذلك؟ أستطيع أن أثق دائماً بمدينة ذات جسور، بغضّ النظر عن الألم. ففي المعلّق شيء شبيه بالأمل. إنه اقتحام لحيّز فارغ؛ تيار حياة إزاء الموت، وانعكاسات! هل بإمكاننا أن نعيش بلا أقواس وانعكاسات؟ لا! إنه كالعيش بلا ماء». كذلك، تعرّفت إلى إيتيان سوريو الذي سيستحصل لها على منحة للدراسة في «جامعة بيركلي» في الولايات المتحدة عام 1955. أما البعد الثالث المهم، فهو أنّ باريس وضعتها على تماس مع قضايا الاستعمار، ولا سيما حرب الجزائر ونضالها ضد الاستعمار الفرنسي «في المقهى، تجلس صديقتي كلود ومعها كتاب شعر. لا يدور بيننا أي حديث مهم سوى أنّ باريس جميلة. ولكن، كلمة «جميلة» تلك تتضمن قروناً من حياة وحروب، وأشياء عن العمل والإيمان والوفيات. باريس جميلة بكل تأكيد، وهي آخر مدينة عظيمة في العالم حافظت على روحها، وتعمل مثل ماكينة زُيّتت بشكل جيد. بوسع كلود أن تقول ذلك بكل براءة، ولكن قوله أشد صعوبة عليّ، وأشدّ إيلاماً أيضاً. إنه يمزّقني إرباً. فباريس قلب القوة الكولونيالية الباقية على قيد الحياة، وهذا إدراك يرافقني كل ليلة إلى سريري». خلق هذا في داخلها الإشكالية الكبرى التي عاشها مالك حداد، وكاتب ياسين، وآسيا جبار وغيرهم حول التفكير بلغة المستعمِر والتعبير بها شعراً ونثراً. ولو أن إيتل لم تحول اللغة إلى «مخزن ذخيرة» يحارب به الكتاب الفرنكوفونيون فرنسا بسلاحها، إلا أنها لم تستنكف عن مناصرة قضايا المظلومين والمستعمَرين في العالم، وبخاصة بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة ومناهضتها لغزو فيتنام في قصيدة وضعتها مباشرة على الخارطة الشعرية الأميركية، فكانت إيتل أول من قارن بين مأساة الهندي الأحمر واقتلاع الفلسطيني من بيته وأرضه وبيارته وزيتونه في آخر قضية كولونيالية في التاريخ. وكان كتابها الأشهر «الست ماري روز» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر-ترجمة جيروم شاهين ـــــ 1979) الذي يروي قصة امرأة لبنانية مسيحية تحافظ على فسحة الجمال في داخلها رغم بشاعة الحرب وقباحتها، فتنشئ مدرسة للصمّ والبكم وتلتزم جهاراً بالقضية الفلسطينية من خلال إنشاء «جمعية أصدقاء القدس» لتأتي حرب الأهلية في إعصار عنفها الدموي وتُختطف ماري روز وتُجرى لها محاكمة تنتهي بإدانتها وإعدامها. لكن فيما يحاكم الجناة والانعزاليون القديسة، تنقلب الأدوار ويصبحون هم في قفص الاتهام، فتقلّب إيتل عدنان في الكتاب كل دوافع العنف في المجتمع اللبناني، وتكشف ترسبات وظواهر الذهنية العشائرية والقبلية والطائفية، هي التي بعدما استقرّت في الولايات المتحدة وأجبرت نفسها على الكتابة الشعرية باللغة الإنكليزية «دخلت اللغة الإنكليزية مثل مكتشِف. كل كلمة كانت تولد حيّة، وكل تعبير كان إبداعاً... كانت الكتابة ضرباً من الرياضة، والجُمل، بكل ما تحمله من طاقات مخزونة، خيلاً من الممتع ركوبها لاقتحام الفضاء المفتوح أمامها».
كانت أول من قارن بين مأساة الهندي الأحمر واقتلاع الفلسطيني من أرضه في آخر قضية كولونيالية في التاريخ


بعد مسيرة تعليمية لربع قرن لفلسفة الفن في جامعة كاليفورنيا، ما لبثت أن قامت بهجرة معاكسة نحو بيروت عام 1972 لتشارك في نهضة بيروت الثقافية الهائلة، فعُهدَت إليها رئاسة تحرير ملحق ثقافي لصحيفة ناطقة بالفرنسية (الصفا) قبل أن تندلع الحرب الأهلية عام 1975 فتقضي على أحلام المثقفين بمدينة كوسموبوليتية جديدة من حرية وكلمة ولون ونغمة، فترحل إيتل مفجوعة من دمار المدينة وقيام المسلحين الكتائبيين بقتل ماري-روز بولس التي خلّدتها في روايتها (نُقلت إلى أكثر من 12 لغة)، مودّعةً المدينة ذات الوجه المحروق لمرّة أخيرة: «ولدنا في الأصل من الحزن، لذلك أفراحنا صاخبة وتنتهي بإحراق الأطفال والبيوت». رجعت إيتل عدنان بعد المقتلة اللبنانية إلى كاليفورنيا الشمالية، ولكي تعثر على نقطة ارتكاز شعرية جديدة بعد كل أهوال العنف، انبهرت بجبل تامالبايس، قمة النطاق الساحلي بالقرب من سان فرانسيسكو الذي صار محجّاً دائماً لها تلحظ من قمته تغيّرات الأضواء، ووجود الغيوم، وتبدأ في تمثيلها رسماً وشِعراً. كانت الكتابة لديها بمثابة الـ Yin في الفلسفة الصينية في مقابل اليانغ الذي هو الرسم. وقد كانت حساسية عدنان متيقّظة لكل تلك الثنائيات اللغوية والكونية الشعرية. ففي حديث سابق مع «الأخبار» عام 2016، تقول: «كلمة «بحر» مثلاً في العربية مذكّر ترمز إلى شاب فتيّ يتحدى العاصفة. في الفرنسية، كلمة «بحر» مؤنّثة تجرّ معها صوراً أمومية ليّنة. أما في الإنكليزية فهي محايدة تماماً... ما نقوله بسهولة في لغة ما، يتعذّر قوله في لغة أخرى، فضلاً عن أن لكل لغة موسيقاها الخاصة. لذلك لا نجد شكسبير فرنسياً، الفرنسية لغة مسطحة نوعاً ما، هادئة. أما الإنكليزية، فتشعرين أنّ الريح تخترقها، حاولي نطق كلمة wind. في المجال العلمي، نقول الشيء نفسه تقريباً بكل اللغات. أما في الشعر، فيختلف الأمر كثيراً لأنه مرتبط باللاوعي، بالرغبات والجموح. إذاً اللغة نفسها تأتي بعالم كامل معها. لا أعرف ما الذي كنت أستطيع كتابته لو تعلمتُ العربية، إنها جنتي الضائعة، المغلقة إلى الأبد».
ظلّت إيتل عدنان حتى النفس الأخير محتفظة بروح الطفلة التي تلعب في أزقة بيروت، لكنها طفلة بألف عام، لا تني تدمج الريشة بالقلم، وتسائل الحروب، وتكتب حول الوضعية الصعبة للمرأة والمظلومين والمهمّشين في عالم يزداد ضيقاً وتعصباً وعنصرية بدل أن تضخ فيه الثورة الرقمية والتقنية وسقوط الإيديولوجيات الكبرى روحاً تنويرية أكثر رحابة وتسامحاً. كأن الفتاة الناجية من كل أهوال القرن العشرين، قد احتفظت بـ «جوهرة القلب» بتعبير حافظ الشيرازي، ونأت بروحها عن كل ما يهشّم الكائنات، ونقاء ضميرها أمام سكوت الكثير من المثقفين أمام مسح الغول الأميركي لكل الإرث الثقافي في بلاد الرافدين: «النار تلتهم عقولاً من الماضي. إنه تفكيك حضارة، يعدو الحلاج هائجاً ليعلن «أنا الحقّ» من أي منبر يراه، فتشبّ النار في أصابع قدميه وأذنيه وشَعره. كل ذلك جُعل إلى الأبد في طيّ المجهول باغتصاب بغداد في يوم من نيسان». رحلت إيتل عدنان، تلك التي كانت تستطيع من كلمتين أو ثلاث لا أكثر، أن تصنع قصيدة «قتلت ذبابة هذا الصباح/ لو كنت دولة/ لكنت دمّرت مدينة». كما بيكاسو الذي كان بمقدوره صناعة لوحة بلون واحد، رحلت صاحبة «قصائد الزيزفون» و«عن مدن ونساء» و«رحلة إلى جبل تمالباييس» و«باريس عندما تتعرّى» التي وصفت نفسها يوماً بأنها ترسم بالعربية، وأنها من عابري سبيل هذه الأرض المحمّلين حبّاً وشعراً ولوناً ونشداناً للعدالة والضمير: «أن لا يصيبنا اليأس حيال الماضي/ ولا ننسى/ أن نكون على يقين أن العدالة ستنتصر/ في أحد الأيام»: ماتت إيتل واضطربت أوراق الزيزفون حين أجّل النهر تجدّده.



مقطع من «الست ماري روز»
الشبّان الأربعة هؤلاء، الجالسون في هذه الغرفة ليسوا قضاة وحسب. إنهم أيضاً ضحايا سلسلة، طويلة وقديمة، من الاستسلامات للقدر. قرارات المجموعة هي وحدها الشيء الوحيد الذي يجب الدفاع عنه وتنفيذه بأية وسيلة. يتأهّبون لكي يصبحوا جلّادين فيما يعتقدون أنهم قضاة عدل. تدفعهم جنسانية مريضة، وحبّ مجنون، حيث تطغى صورة السّحق والصرخة. وليس ذلك لأنهم حرموا من المرأة، بل لأن اشمئزازاً عميقاً من الجنس يسكنهم. ثمة شعور بوساخة اللذة يقلقهم ويبقيهم في عطش مستمر. وهكذا يصرفون طاقتهم الانفعالية المكبوتة بواسطة العنف الذي يمزّق، ويقتل، ويفني. وعندما تخترع شعوب أخرى، لهوسها بالنظافة، مواد كيميائية فعالة، لا ينفكّون هم، يستعملون لغة إبادة الشعوب البدائية المطلقة، ولا يكسبون في هذه الصراعات العشائرية الأراضي بل يحذفون بعضهم البعض. وإذا ما -بعد أن يقتلوا- تهالكوا على الضحايا وشوّهوا الجثث، فما ذلك إلّا ليقلّصوا حجم الجسد العدو، ويمحوا، إذا أمكن ذلك، واقع أن يكون العدو قد وجِد. فوجود العدو هو نوع من انتهاك القدسيات، يتطلب تطهيراً متوحشاً. لم يختبروا هذا التعارض ما بين الطريق الداخلي الذي يقود إلى القبلية، وبين الرغبة، التي يشعر بها الناس تحت سماوات أخرى، بهدم السدود، وبالخروج لرؤية ما يجري في الخارج، وبالرحيل في مغامرة تبغي اكتشاف إنسانية تسير على وقع الكواكب السيّارة. ليست المرة الأولى، التي تقف فيها امرأة عربية في وجههم بشجاعة مطلقة. غير أنّ ذاكرتهم تخونهم. يقرّون بمزايا لسياراتهم أكثر من نسائهم. ونساؤهم يمارسن عليهم سلطات غير مباشرة. تلك التي تبدو لهم غير مؤذية، أو تلك التي تطغى إلى حدّ أنهم لا ينتبهون لها. أما المرأة التي تقف منتصبة وتنظر إليهم في العيون، فهي شجرة يجب قطعها، ويقطعونها. فتسقط بصوت خشبة يائسة، ويضيع الصوت عبر الأحياء، الشوارع ووسط احتجاجات النساء الأخريات اللواتي ارتضين وسُررن بانتصارات الذكور. لا يقرّون بمزايا إلا لأمّهاتهم، إذ إنهم يتذكّرون الطمأنينة فيهنّ وحولهنّ. وحتى أنهم لم يتركوا أبداً أمهاتهم، إلا لقتل العصافير وبعض الناس. والمحبة المحصورة بالأم تدفع من جديد دورة العنف. فعندما يطلّ في الأفق غريب أو إنسان غير محبوب، وعندما ينمو بُغضه كمحروم، ويكبر أمام العيون، كالنبتة في غابة موحشة، لا تنتظر أن يقف الشتاء لتتكاثر، عندها يقف المحبوب من أمّه والمبارك بالغنى، فيأخذ بندقيته ويبدأ بالهجوم. يشعر أنه الأقوى ولا يعرف أن رصاصاً سوف يكتب على صدره العاري كلاماً دموياً، قاتلاً. هو أيضاً كالغريب، سوف يغيب.
(المؤسسة العربية للدراسات والنشر-ترجمة جيروم شاهين ـــــ 1979)