في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، توقّف قلب المصوّر العراقي الرائد لطيف العاني (مواليد كربلاء عام 1932). عاش الراحل في بغداد، مدينته التي عشقها، ودوّن تاريخَها الحديث بعدسة كاميرته (تحديداً الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي) في صور عديدة نقلت لنا بعضاً من ملامح هذا التاريخ المهم الضّاج بالأحداث والانقلابات والتفاصيل الدرامية السياسية والاجتماعية. وكذلك فعل مع مدن العراق الأخرى من شماله إلى جنوبه. أرشف لطيف العاني إيقاع الحياة في بلد متعدّد الثقافات والأعراق، كأنّه كان يتنبّأ بزحف الخراب والحروب الكارثية المتتالية سراعاً. اجتهد في تسجيل زمن جميل سيمضي ولن يعود أبداً. يقول في إحدى مقابلاته الأخيرة: «إنّ الحاضر شيء مؤلم وصادم لجيلنا الذي شاهد واختبر معايير الحياة في الستينيات والسبعينيات». كان العاني يتحدّث عن عراق يتقدّم بخطوات ثابتة في مجالات الصّحة والتعليم والبناء والثقافة والأدب والفن والعمارة.
لطيف العاني: الحاضر شيء مؤلم وصادم لجيلنا الذي اختبر معايير الحياة في الستينيات والسبعينيات

سنوات شبابه الأولى ورغبة الاكتشاف والشغف دفعته نحو التصوير الفوتوغرافي بقوة، ليكون ذلك العالم الحياةَ التي عاشها: الوجوه والمشاهد والأحداث، الضوء والعتمة، المشهد بوصفه تاريخاً توثّقه الصورة. كأن هاجس العاني هو تسجيل هذا التاريخ وهذه اليوميّات ونسجها على طريقته التي تبث الأمل والفرح في نهضة قادمة.
حقّق له أخوه الأكبر، الذي كان يمتلك مطبعةً صغيرةً في «شارع المتنبي»، رغبته في امتلاك كاميرا شخصية، فاشترى له كاميرته الأولى بعدما أخبره جارُه في «شارع المتنبي» المصوّر المحترف نيسان، بموهبة لطيف، الشاب الصغير المتحمّس. وربما كان لقاء لطيف العاني بالمصوّر نيسان مفتاحاً لحياة جديدة وعوالم ساحرة، سيختبرها بذكاء، ليرتّب سنواتٍ قادمةً مليئةً بالعمل والمغامرة والاكتشاف. تعلّم لطيف من المصوّر نيسان المبادئ الأولى لحرفة فن التصوير الضوئي وزاده هذا التعليم شغفاً، وتملّكه ذلك الوهج، والافتتان بالضوء الخارج من عدسة الكاميرا الذي كان يوجّهه بعين واحدة. أخذ الشاب الصغير كاميرته وبدأ يتنقل من مكان إلى آخر، يلتقط الصور ويسجّل بلاغة اللحظة، وأخذت موهبتُه وأدواتُه تتطوّر، بخاصة بعدما قُبل في العمل مصوراً في وزارة النفط العراقية، فتعلّم هناك أسرار التصوير من مصوِّرين بريطانيَّين كانوا يعملون في وزارة النفط آنذاك.
نقل مرحلةً مهمةً من نهضة العراق والمرأة وانخراطها في مسيرة العمل والتعليم


تكوّنت عند المصوّر الشاب لطيف العاني المعارف الكاملة لدخول هذا العالم، تحديداً عالم التصوير بالأسود والأبيض، وأدرك منذ وقت باكر أنّ الصورة الفوتوغرافية ليست لغرض وظيفي ولا صورة مكررة يمكن استخدامها لحاجة ما فقط، إنما هي عملٌ فنّي له نظام مكتمل وخصوصيته وأدواته المعرفية، الحرفية والحسّية، وتنبّه إلى أنّ الضوء هو الذي يجعلنا نرى الأشياء بوضوح، وهو الركيزة الأساسية في فن التصوير، وأنّ الصورة الفوتوغرافية عمل فني مستقل، له وجوده وشيئيته الخاصة. لذلك هو يدعونا إلى الانتباه والتأمل.
أصبح العاني يرى الوجوه والمشاهد بعين تعرف المشهد في صورة متكاملة العناصر: الضوء، والظل والتكوين وزاوية الكاميرا واللحظة المناسبة. لا تنقل الصورةُ الواقعَ كما هو، ولكنها تصفه لنا بطريقتها الخاصة، وتضعنا في مواجهة هذا الشيء، إنّها تمثيل يمنحنا الجمال الصافي والمعنى.
سجّلت عدسة العاني حياة العراقيين اليومية، والأماكن العامة والآثار والعمارة الحديثة في بغداد، ونقل أيضاً في صوره النادرة مرحلةً مهمةً من نهضة العراق في مجالات رئيسية مثل الزراعة والصناعة والتعليم والصحة، وبوادر نهضة المرأة وانخراطها في مسيرة العمل والتعليم. تكشف «صورة بنات ثانوية العقيدة في حصة الألعاب 1961» عن أمل في مستقبل مشرق وعراق مدني متحضر. وكذلك فعل عندما التقط لنا المرأة الفلاحة (المرأة الموصلية في موسم الحصاد) في صورة نصفيّة ملهمة تظهر لنا سمو وأهمية دور المرأة في نهوض المجتمعات. وفي صورة أخرى مميزة عن مجريات العمل في «سد دربندخان» عام 1962، يظهر عامل اللِّحام وهو يعمل وسط أنبوب ضخم. يكشف العاني في هذه الصورة عن حِرفيةٍ عاليةٍ في استخدام الضوء وإخراج صورة بتقنية السيلويت Silhouette.


كان عشقه لبغداد واضحاً، فكل الصور التي قدّمها عن هذه المدينة كانت توثّق تحوّلها وتطورها السريعَين في شكل العمارة الحديثة، سيّما الأثر الذي تركته عودة خيرة المعماريّين العراقيين الذين أكملوا دراساتهم المعمارية في دول الغرب أمثال جعفر علاوي، وقحطان عوني، ورفعة الجادرجي، وعدنان المدفعي. نشاهد ذلك بوضوح في مجموعة من الصور التي تظهر براعة العاني في اختيار زاوية التصوير لهذه المعالم والانتقال الجميل بين درجات الأسود والرمادي إلى الأبيض (مثلاً: صور «مدخل سوق الشورجة»، و«مدخل شارع الرشيد من جهة الميدان» و«شارع المصارف»)
وإذا كان لا بد لنا من أن نذكر أهمية الظهور الحقيقي للتصوير الفوتوغرافي في العراق بشكله الفني الاحترافي، يكون لطيف العاني مع المصور الفوتوغرافي والمصمم الطباعي المعروف ناظم رمزي (1928ـــــ 2013) قد شكلا الركيزة الأساسية لفن التصوير. كان ناظم رمزي قد بدأ مشواره في التصوير الفوتوغرافي بعد لطيف العاني بسنوات قليلة، وفي زمن لم تكن هناك مدرسة في العراق تعلِّم قواعد فن التصوير الفوتوغرافي.
قدم العاني وثيقةً مهمة عن حياة العراقيين ويومياتهم في مجموعة من الصور الفريدة، تذكّرنا بسلسلة الصور الرائعة للمصور السويسري روبرت فرانك عن الأميركيين والحياة الأميركية في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي. الصورة بوصفها اللحظة المفارقة التي لا تتكرر، وعلى المصوّر المحترف أن يكون جاهزاً بكاميرته ينتظر ويراقب ويقتنص تلك اللحظة.

عرض العاني أعماله في وقت باكر خارج العراق، تحديداً في الولايات المتحدة الأميركية سنة 1953 ولاحقاً في باريس ولندن والإمارات العربية المتحدة. وحصل على «وسام الأمير كلاوس» من هولندا، واحتفى به موقع متحف Tate الشهير في لندن بوضع جزء من أعماله على موقعه. وصدرت ثلاثة كتب تضمنت أهم أعماله الفوتوغرافية، أولها صدر في بغداد سنة 1963. توقف العاني عن التصوير نهائياً منذ عام 1979، عندما حظرت الحكومة آنذاك التصوير في الأماكن العامة، وتوقفه كان شكلاً من أشكال الرفض.
برحيل العاني، يكون العراق قد فقد أهم أقطاب الإبداع في فن التصوير الفوتوغرافي، لكن ستبقى صوره وثيقة خالدة تتناقلها الأجيال. ويبقى اسمه ضمن مبدعي العراق الكبار.

* تشكيلي عراقي