أتذكّره في المدرسة الثانويّة في الـ«آي.سي»، وعرفتُ شقيقته رنا (في «اللّيسيه») من زمن التظاهرات والحركات في المدارس من أجل فلسطين. جمعنا النضال من أجل فلسطين، وكانت زيارة السادات أول عمل مشترك لنا في الاحتجاج والتحرّك الطلابي. منذ تلك الأيام، كان يوكل إليه وليّ أمر الصياغة المشتركة للبيانات والمنشورات، وبقينا على هذه الشراكة على مرّ العقود الطويلة. كنا عندما نختلف على مسألة في اللغة العربيّة ونفشل في التوافق على حلّها، أقول له: فلنتوقّف. أعرضْها على والدك (سهيل إدريس) وأنا أقبل بما يُفتي. وهكذا كان دوماً.

عندما عرفتُ بمرض سماح المفاجئ، كتبتُ له: كما خضتَ معارك شرسة ضد الصهيونيّة، نحتاجك كي تخوض هذه المعركة. لا يمكن للقضيّة أن تتخلّى عنك. هي تحتاجك. لكن أخبار مرضه كانت تصلني بصورة يوميّة. كانت المواكبة مؤلمة جداً لجميع من عرفه وأحبّه. كنا نتبادل الأخبار عنه بعد مرضه على مدار الساعة ونحاول ألا نتكلّم معه عن المرض. كيف يمكن أن يفقد حيويّته بهذه السرعة؟ كيف يمكن للمقاطعة أن تفقد دوره، وهو الذي حرص على مواكبتها في أيامه الأخيرة الصعبة. كيف يمكن للأمعاء أن تقتله وتأخذه من عائلته ومحبّيه؟
لا أخفي أنني عندما سمعتُ بخبر مرضه، شعرت بشحنة غضب ضد عدد من الإعلاميّين اللبنانيّين الثاو ثاويّين: هؤلاء الذين قضوا ساعات على مواقع التواصل ليسخروا من سماح إدريس ويسخروا من قضيته في مقاطعة إسرائيل والشركات المتعاونة معها. هؤلاء أفنوا في ذمّ سماح إدريس أكثر بكثير مما أفنوا في نقد وذم إسرائيل. هؤلاء قضيّتهم لم تكن مقاطعة إسرائيل، بل ذم مقاطعة إسرائيل. سماح لم يكترث لعبثهم ومضى في حاله يشحن عزيمته باستمرار. سماح كان هدفاً سهلاً: لم يكن وراءه حزب أو حركة أو نظام. كان مثلي من الذين تأثّروا بجورج حبش. سماح تعرّض لحملات كثيرة مغرضة بسبب عناده في رفع لواء معركة المقاطعة. وسماح لم يكن يرى في المقاطعة بديلاً عن المقاومة، كما يرى بعض الليبراليّين في الغرب. لا، هو رأى في المقاطعة رافداً من روافد مقاومة إسرائيل.
كان يجول على المخيّمات لمشاركة الأطفال القراءة


عاد سماح إلى لبنان بعدما أنهى الدكتوراه في «جامعة كولومبيا» وتسلّم مجلّة «الآداب». وفي عصر كانت فيه المجلات إما تندثر أو تلتحق بأنظمة الخليج، عاشت «الآداب» (وإن توقّفت لفترة) ولم يساوم سماح وحافظ على خط «الآداب» العروبي التاريخي وضخَّ فيه فكراً يساريّاً أنعشها وجعلها أكثر راهنيّة. (قد لا يعلم البعض بأنّ «الآداب» كانت نقيض المشروع الرجعي لمجلّة «شعر»). والمجلّة كانت من نادرات الثقافة والإعلام العربي في أن سماح كان يحرص على تحرير المقالات، يحرّرها بالفعل ويمحِّص فيها إلى درجة أنه يجعل الكاتب يتضايق لو أنّه غير حريص على شكل إنتاجه. تجربة التحرير في «الآداب» لم أمرّ فيها في مجالات النشر العربيّة. انكبّ سماح على العمل على تطوير «الآداب» وعلى نشر الأرشيف رقميّاً. كل ذلك لم يشغله عن العمل على القاموس الذي كان حلم حياته، فيما تولّت شقيقته رنا شؤون «دار الآداب».
لا أتخيّل «الآداب» من دون سماح ولا أتخيّل فايسبوك من دون سماح، ولا حركة المقاطعة من دون سماح ولا كتب الأطفال من دون تأليف سماح. كتابة كتب للأطفال ليست عملاً أدبيّاً محترماً في عالمنا العربي، لكن سماح وعى أهميّتها وكان يجول على المخيّمات لمشاركة الأطفال القراءة. كان الأطفال والأولاد يتعاملون معه كأحد المشاهير لأنهم نشأوا على قراءة كتبه للأطفال. من المفارقات الحزينة أنّ سماح توفي بعد سنتيْن فقط من وفاة رفيقه وصديقه ماهر اليماني. حركة المقاطعة لن تكون بعده كما كانت في عهده، لكن على كل رفاق درب سماح التعهّد بإكمال الدرب في حركة المقاطعة كما في إنتاج مجلّة «الآداب» وفاءً لرسالة الراحل العزيز. أكاد لا أصدّق أنني أرثي سماح إدريس. أرثي سماح، لكن لا أرثي القضيّة التي حملها على منكبيْه طيلة حياته. وداع الرفاق والأصدقاء أسهل على المؤمنين مما هو على الملحدين. المؤمنون يتوقون للقاء الأحبّة، أما الملاحدة فليس لهم إلا فراق يعلمونه أنّه قاطع ونهائي.