منذ «كتابها الحريم السياسي: النبي والنساء» (1992)، نافست فاطمة المرنيسي المؤسّسة الدينية والمؤسّسة الذكورية المحتكرة للدين، فكشفت الفرق بين النص القرآني وبين التقاليد الاجتماعية التي كرّستها الأحاديث النبوية والموضوعة والمؤسسة الفقهية ومؤسسة الفتوى لتأبيد وضعية دونية النساء. وواجهت بذلك تعاليم نظام أبويّ كرّس سيف المقدّس على النساء وحرمهن حقوقهن باسم طاعة الدين والاستجابة للأمر الإلهي. نقدت المرنيسي بشدة مقاومة هذه المؤسسات المحافظة للتجديد وتشبّثها بحرفية التقليد والقيود المفروضة على النساء باسم السُّنة النبوية والدين القويم. لذلك، وجدت المرنيسي نفسها تتجه نحو نقد نسوي معرفي للعلوم التي أسّسها الذكور واحتكروا بها فهم وتأويل النص القرآني والمؤسسة الفقهية والقوانين، وجعلوها بذلك تخدم مصالحهم وغاياتهم. يمكن القول بأنّها رائدة هذا التيار النسوي الإسلامي الذي ينقد بشدة احتكار فهم النص القرآني ويدعو النساء إلى فهم وتقديم وسائل وقيم جديدة لتأويل النص وإنشاء قراءات عادلة ومساوية بين الرجال والنساء بما يتلاءم مع حق النساء في المشاركة في وضع تأويل وصناعة فقه يناسب وضعهن الجديد. وهي قراءات تبجّل روح النص على حرفيته، وتبحث في سياقات الآيات وتبرهن نسبية الأحكام وتفسّرها في سياقاتها التاريخية، وتبرز قيماً دينية وأخلاقية مطلقة قامت عليها روح الشرائع والأديان كالمساواة والعدل والكرامة البشرية. لم تكتف المرنيسي بالدعوة إلى المساهمة في إنتاج المعنى الديني، بل أسهمت في إضاءة جانب من تاريخ النساء المنسيّ الذي لم يبرز إلى العلن، وبقي في طيّات النسيان. هكذا، نفضت عنه غبار الذاكرة وأبرزته لتثبت أنّ النساء قادرات على المشاركة في الفكر والحكم والفضاء العام، ولا يمنعهن عن ذلك سوى ظلم التقاليد المبرّرة بتبريرات دينية. ولهذا ركّزت المرنيسي على نقد الهيمنة الذكورية والتمثّل الأبوي للعلاقة بين الذكورة والحريم. لقد جمعت المرنيسي بين ثقافتها التقليدية التي تلقّتها في طفولتها، وثورتها على تلك المنزلة الدونية الظالمة وبعدها الكوني الذي أثرته تجربتها في التخصّص في العلوم الاجتماعية في فرنسا وأوروبا، فاتّسع نطاق كتابتها ليشمل ثورتها لا على صورة الثقافة الأبوية العربية فقط، بل على الثقافة الغربية نفسها وصورها النمطية حول النساء العربيات. سافرت المرنيسي في أعماق بلادها المغرب لتكشف عن نساء غير مرئيات يعملن ويُعِلن أسرهن ويسهمن في تنمية الثروات العائلية، لكنهن لا يحظين بالاعتراف ولا المرئية، وكشفت بمنهجها الحديث عن مفارقة الوضع النسائي في العالم العربي حيث النساء يعانين الاضطهاد مرتين: مرة بسبب العادات، ومرة أخرى بسبب التصورات المتخيّلة عن «حريم» تسوّق له متخيّلات جنسية تَلقى صدى وهوى في الغرب، وتتاجر بقضايا النساء لتعبث بحقوقهن وكرامتهن.
نصر حامد أبو زيد خصّص لها فصلاً من كتابه «دوائر الخوف»، مشيداً بجهودها ومُبرزاً إضافتها وبصمتها


عملت المرنيسي على كشف سلطة توظيف الثقافة الذكورية، سواء أكانت عربية أم غربية، للهيمنة وتأبيد واستغلال الضعفاء، وكانت النساء في دائرة الاستغلال يعانين حجباً رمزياً ومادياً وطبقات من الخوف من الأنثوي ومن الحداثة ومن الحرية. برعت في كشف تلك العقد المتتالية على الثقافة العربية بحجج دامغة من واقع المجتمع المغربي والعربي، كما برعت في مناصرة قضايا النساء في الصحف وفي الجرائد والملتقيات والندوات. لم تغب المرنيسي عن الساحة الثقافية، بل قاتلت داخلها وداخل الورق من أجل تحرير صوت وعقل المرأة من عقال التوظيف والهيمنة السياسية والاجتماعية والدينية.
لم تدّخر المرنيسي جهداً في تفكيك بنى الحجب والقهر والخوف من النساء ومن حريتهن، فـبرزت تلك البنى الطبقية والثقافية، وكشفت هندسة الخوف وبنيته الداخلية، ما جعلها تحظى باهتمام مفكرين من بينهم نصر حامد أبو زيد الذي خصّص لها فصلاً من كتابه «دوائر الخوف»، مشيداً بجهودها ومُبرزاً إضافتها وبصمتها.
لقد فكّت الكاتبة المقاومة أسر النساء بقلمها وبعلمها وبوجدانها، إذ قاومت، حتى وافتها المنية، بنية الهيمنة الذكورية في الغرب والشر، حتى صارت مثالاً في الكتابة النسائية والمقاومة معاً، وتركت بصمتها في الثقافة العالمية المقاومة للظلم وللقهر والذكورية والاستبداد.
كتبت فاطمة المرنيسي تاريخاً جديداً للنساء العربيات، حين فكّت أغلال هندسة الحريم وكشفت ما وراء كل القيود المفروضة على النساء، من مصالح وقوى، وأبرزت كيف أنّ التقاليد اللامرئية أكثر بطشاً بالإنسان من تلك التي يمكن رؤيتها. بذلك، كسرت حواجز الصمت وتركت وراءها طريقاً معبّداً للواتي يمكنهن مواصلة المقاومة للخروج بالنساء من تاريخ قهرهن الطويل إلى تاريخ جديد يكنّ فيه محظيات بالمساواة والكرامة والاعتراف على قدم المواطنة والحق، لا التفضّل ولا المنّ من أيّ سلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية. فحرية النساء لا يمكن أن تُهدى لهن، بل هي ككل قصص الحرية، تُفتكّ افتكاكاً وتتعهد بالأسوار والحرص حتى لا تكون تلك الحرية وتلك الحقوق محل قهر جديد.
رحم الله الكاتبة المبدعة، فقد عبّدت طرقاً صعبة بعدما افتكّت فضاء الدين من الرجال، وجعلته مشاعاً لكل إنسان، ورحلت بالفكر العربي الحديث من زوايا ضيقة إلى سماء المعرفة الرحبة والنقد البنّاء والحفر في الأعماق، وعسى أن يكون لكل ما خطّته أثر عند الرجال والنساء على حدّ سواء.

* باحثة تونسية في مجال الحضارة العربية الإسلامية وتحليل الخطاب الديني