الرّباط، 30/11/2015: انطفأت في صمت، وهي التي كانت تملأ محيطها بضحكتها المجلجِلة، وكاريزماها وجسارة تصاريحها وتحاليلها.ولِدت عالمة الاجتماع، والباحثة الميدانية والناشطة النسوية فاطمة المرنيسي في فاس عام 1940. ونَشَأت محاطة بعالم النساء، في ما يسمّى «حريماً»، روت عنه بتفصيل في نصها السردي الوحيد: «أحلام الحَرَم، حكايات طفولة في الحريم» (1994). تتلمذت في أولى المدارس المختلطة التي أسّستها الحركة الوطنية، ثم استكملت دراستها في القانون في الرباط، لتحصل على منحة دراسية في السوربون. توّجت هذا المسار الأكاديمي المتعدد التخصصات والمناهج، بالحصول على الدكتوراه من جامعة برانديس الأميركية، بأطروحة تحت عنوان: «ما وراء الحجاب، ديناميكية الذكورة والأنوثة في المجتمع الإسلامي الحديث» (ناقشتها في 1974، ونشرتها في 1975). استحالت الأطروحة إحدى كلاسيكيات الدراسات الثقافية بتناولها ومقاربتها الجديدَيْن، وفق ما أسماه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي: النقد المزدوج؛ أي إخضاع مآلات ومتون وخطابات المستعمَر لعملية تفكيكية توجَّه فيها سهام النقد للمكونات الارتكاسية في ثقافتنا، بدون إغفال ما تسببت فيه الكولونيالية من تشويه أو كبح للطاقات التحررية الكامنة في تاريخنا ومجتمعنا، نقد الأنا والآخر.
بكتابها «الحريم السياسي» (1997)، الأَجْرَأِ بين كل مؤلفاتها، خاضت المرنيسي في مناطق كانت ساعتذاك محرَّمة بحثياً، خصوصاً على امرأة تنتصر للمرأة، بتناولها للتشريعات الإسلامية وتمحيصها في الأحاديث وسياقاتها وقراءاتها السياسية المغرِضة، لتَخْلُصَ إلى ملاحظة عامَّة: طال التهميش النساء عبر التاريخ العربي الإسلامي، ووَضَعَهنَّ خارج أي مشاركة في أمور الشأن العام، من خلال ترسانة تشريعية تستند في غالبيتها إما إلى أحاديث ضعيفة أو موضوعة، ثم إلى قراءات متعسِّفة للمتن القرآني. وفي عز استقطاب النظام المغربي للمدّ الوهابي، لمواجهة فصائل اليسار والحركة التقدمية في الجامعات المغربية، مُنع الكتاب من التداول في المغرب، واستنفرت «رابطة علماء المغرب» (دار الإفتاء الوحيدة والرسمية في المغرب، يرأسها ملك المغرب بصفته أميراً للمؤمنين) الإعلامَيْنِ الرسمي والمحافظ وفقهاء السلطان والحركات المتأسلمة ضدَّها في ما يشبه حملة تكفيرية. رغم الحملة الهوجاء، بقيت المرنيسي متمسكة بكل ما جاء في دراستها، لتصرح بشجاعة «أنا فخورة بهذا الكتاب، هو مدعاة لفخري».
توازياً مع اشتغالها الأكاديمي والفكري، خاضت المرنيسي، بدءاً من 1990، وسط المجتمع المدني، معارك من أجل النساء، مؤسِّسةً ما صار يسمى «قوافل مدنية»: أحزمة نضالية، شبه كَشْفِيَّة، تتكوَّن من مثقَّفين وباحثين اجتماعيين ميدانيين وشباب متطوعين، يقومون بتسيير قوافل من الدعم والمساعدة التموينية وحملات التَّوعية لنساء وأطفال المناطق المعزولة والنائية والمهمَّشة في المغرب. كثيراً ما كانت تنتهي هذه الرحلات بإصدار أبحاث سوسيولوجية كتفريغ لمعطيات الجولات الميدانية، تؤطّرها المرنيسي في ورشات بحثية جماعية. وقد توجت هذه الأنشطة بتأسيس مجموعة بحث ودراسات تحت اسم «نساء، أُسَر، أطفال». كرست المرنيسي بقية بحوثها لقراءة نقدية للبطريركية (الأبوية) المهيمنة على المجتمعات العربية، وانتقدت أيضاً مباركتها من قبل الغرب الذي كوَّن صورة نمطية عن المرأة منذ الخطوات الكولونيالية الأولى. تمثيل ذلك في أهم كتبها نقداً لاستشراقية وفولكلورية الرؤية الغربية للمرأة الشرقية: «الحريمُ والغربُ» (2001). منذ بداية مسارها البحثي حتى نهايته، لم تحد قيد أنملة، عن أطروحتها المتمثلة في اعتبار تعاليم الإسلام غير متناقضة مع المساواة بين الجنسين، فالمشكل كامن في دفن هذه المساواة تحت ركام من القراءات الظلامية للنص الديني. في 2003، حصلت مناصفَةً مع سوزان سونتاغ، على «جائزة أمير الأستورياس» في فرع الأدب؛ ثم في 2004، على «جائزة إراسموس» مع صادق جلال العظم وعبد الكريم سوروش. أكبر عرفان بأبحاث ومسار المرنيسي، سيُسجّل عام 2019، مع تأسيس الجامعة الوطنية المستقلة المكسيكية كرسياً باسمها، إلى جانب كرسي خاص باسمها أيضاً في «جامعة محمد الخامس» (الرباط). تحتفظ كتابات ومسار المرنيسي براهنيتهما، من خلال الفورة النسائية التي عرفها العالم العربي الإسلامي في حياتها وبعد وفاتها، ببروز أسماء نسائية سارت على النهج نفسه في نقد المظلِم من تراثنا الديني والشرائع المجحِفَة التي اشتُقَّتْ منه عَسَفاً، مع نقد التدخلات الغربية التي اشتغلت بعنف على تشويه كل الجسد العربي الجريح، مادياً (فيزيائياً) وفكرياً، بتشجيع الصورة النمطية الاستعبادية.