أصدرت «الحركة الثقافية – انطلياس» بياناً تأبينياً حول الأب العلاّمة بولس الخوري الذي رحل قبل أيام، جاء فيه: «مع غياب الأب العلاّمة بولس الخوري، تخسر الثقافة اللبنانية والعربية واحداً من أهم أعلام هذه الثقافة من حيث غزارة الإنتاج وتنوّع الأبحاث وأصالة التفكير. وُلد في قرية دردغيا، قرب صور، عام 1921 وتنقّل بين معهد القديسة حنّة في القدس، ومعهد الآداب العليا في بيروت، وجامعات روما وباريس وستراسبورغ وليدن (هولندا) وألمانيا (مونستر). وقد حمل دكتوراه دولة في الآداب. كتب مؤلفاته في العربية والفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية. كما كان يتقن اليونانية واللاتينية. انكبّ على تحليل المخطوطات المنسيّة، ودرس أعلام الفكر المسيحي العربي الذين برزوا مع انتشار الإسلام. كما حفر في أفكار المثقفين العرب المعاصرين الذين كتبوا بالعربية أو بغيرها من اللغات. عالج في كتاباته أعلام الفلسفة والفكر الديني - اللاهوتي على امتداد تاريخ الفكر المعروف منذ اليونان مروراً بالكتاب المقدس حتى أحدث الفلاسفة والمفكرين الدينيين.
اهتمّ بعمق بموضوع الحوار المسيحي الإسلامي، وتوقّف عند اللاهوت والدين والثقافة، والالحاد، والمسيحي وغير المسيحي، والحوار الديني وتحدّي الحداثة، وقراءة معمّقة واستثنائية للفكر العربي المعاصر، والتراث والحداثة، ودور العامل الديني في التثقيف في الشرق العربي، والتربية والفلسفة في لبنان.
على صفحات مجلّة «آفاق» التي ظهرت في بيروت سنة 1974، أطلق عمق أفكاره – وهو على أي حال كان أحد أبرز مؤسسيها – طرح الأسئلة الجريئة والنقد العقلاني لأدّق المواضيع الدينية والاجتماعية. تناول مواضيع الرفض أو الثورة والعلمنة، الإيمان والالتزام السياسي، المجتمع الديني، والثورة: قضية العالم العربي الأساسية، نحو مفهوم للإنسان، الذهنية النقدية والإنسان الجديد، الأيديولوجيات والايمان بالإنسان، الاستلاب والتحرير الاجتماعي. له مئات المقالات والمحاضرات ومؤلّفات تفوق المئة بلغات عدّة.
ميّز الخوري بولس بين الإيمان والدين، ووضّح التقاربات والتباعدات بين الإسلام والمسيحية من منظور جديد. أكدّ على قول لافونتين: «لا تتوكّل إلاّ على نفسك». ومن قناعاته الأساسية ما ورد عند المفكر مونتسكيو: تفضيل مصلحة العائلة على مصلحة الفرد، ومصلحة المدينة على مصلحة العائلة، ومصلحة الوطن على مصلحة المدينة، ومصلحة الإنسانية أو الجنس البشري على مصلحة الوطن. وفي سعيه وراء الحقيقة باستمرار، تمثّل بقول كانط إنه وضع لنفسه فرضاً واجباً ألاّ يقول شيئاً ما إلاّ إذا اعتقد أنه صواب. ورأى الأب العلاّمة في هذه القاعدة قمّة في الروعة، لما فيها من إعلاء لشأن الحقّ والأمانة والحسّ بالكرامة الشخصية وبالكرامة الإنسانية. وأستاذنا يعتبر أن الإنسان كائن كلامي، أي كائن ثقافي، قبل أن يتميّز أو يتحدّد بأي صفة أخرى.
لقد رافق الخوري بولس حركتنا منذ نشأتها، وكان دائماً المرشد والموجّه والمرجع. في 7 آذار (مارس) 1991، كرّمته «الحركة الثقافية» في إطار «المهرجان اللبناني للكتاب»، واستمرّ بعض أعضائها في زيارته الدورية، والاستماع إلى توجيهاته. وفي هذه الأيام الحالكة السواد حيث يتعرّض شعبنا لمشروع إبادة من منظومة الفساد والجريمة، ستظلّ أفكار الخوري بولس منارة تضيء لشعبنا اللبناني، ولكل الشعوب العربية، طريق المستقبل. ومن حلكة الليل ينبثق الفجر المنير».