الكتابة عن الدكتور سماح ادريس، المثقف والباحث والناشر والمترجم مَهمةٌ سهلة لمن يقرأ أعماله ويطل على تجربته ومسيرته الثقافيّة والإبداعية، أما الكتابة عن سماح أو الرفيق سماح فإنها أكثر من شخصية. مَسألة لا حياد فيها ولا موضوعية ويستحيل فيها نقد أو تجرّد، مثل هذه الكلمات لا قيمة لها الآن في لحظة الفقد والحزن، أمام هذا الشعور الذاهل بالوحشة والخسارة إلى درجة اليُتم. الخسارة التي يستحيل تعويضها. والتي تكبر كلما مرّ طيفه أو ذكر أحدهم إسمهكتب مرة في «الأخبار» يرثي رفيقه ويقول: «إنّ المثالَ شيء، والصنمَ شيءٌ آخر. المثال قنديلٌ يُعينُنا على تلمّس الطريق، ويجنّبُنا بعضَ العثرات؛ أمّا الصنم فيزيد من عثراتنا ويقف حائلاً دون تقدّمنا» («الاخبار»، «ماهر اليماني أو النضال الشامل» 26 شباط/ فبراير 2019) .
والكتابة عن سماح في صيغة الغائب أو الماضي مسألة مرفوضة في حالتنا، لأنها تشبه التراجع والاستسلام. فلماذا يتعين أن نقنع أنفسنا انه رحل؟ ماذا يغيب وماذا يبقى من صديقك؟ كيف لن نلتقيه بعد اليوم؟ لن نضحك، لن نصحو في الفجر نقرأ رسالة خطّها على عجل في سطر أو اثنين.. وفي فترة الصراع ضد الموت وفي أشد الظروف صعوبة، لم يفقد قدرته على النكتة أو السؤال والدفاع عن لغته العربية في مقالات ونصوص قرأها.
لو كانت اللغة العربية قادرة على القول والفعل الصريح، لخرجت تندب حظها الآن في شوارع بيروت وتبكيك..
نحن لن ننساه. هذا لن يحدث، ولن نتخلى عنه، وعليه هو أن يفتش معنا عن طريق ويولد مرة أخرى. وسيولد من جديد. فهناك مهام لم يسعفه الوقت على أدائها. والجواب عند رفاقه ورفيقاته في بيروت وتونس وعمان ودمشق والكويت وعواصم العرب. الجواب هناك أيضاً: في فلسطين التي انحاز لها، بلا شروط ولا مبررات، مثلما ينحاز الفدائي العاشق إلى عشقه.
يولد سماح ادريس مرة أخرى حين نواصل نحن مساره نحو فلسطين. وهذا مسار صعب يشترط بناء الجبهة الثقافية العربية وأن نستلهم الدروس وتجارب الثوريين العرب والاممين الذين أضاؤا لنا الدرب. وحين نرسم الطريق معاً نحو المستقبل، سنعثر عليه ويولد من جديد
يولد مرة أخرى حين نستمر في بناء جبهة عربية وأممية في مواجهة قوى الاستعمار والكيان الصهيوني، ونضاعف من قدرتنا على الصبر ورفع سقف الاشتباك. ونشد العزم ضد مشاريع التصفية والتطبيع، نجده ينتظرنا ويسير معنا في الطريق، يوزع علينا كتبه ويحرضنا ويرشدنا: قاطعوا العدو.. قاطعوه
حين تصير مهمة تحرير فلسطين سُلوكاً يومياً، وهدفاً وبوصلة وطريق، فكرة لا تموت. ويتحول الوفاء إلى سلوك طبيعي، فلا يعود الصدق هو الإستثناء في زمن الانحطاط. بل يصير الخبر العادي واليومي.
يعود سماح أكثر حين تحرر المخيمات الفلسطينية صوتها وتمسح الصمغ العالق في جوفها وتستعيد القرار السياسي، تبني جموع اللاجئين كتائب العودة والتحرير، وتضع في قبضة كل مقاتل كتاباً وبندقية وخارطة الوطن.
هذا الجسد يفنى ويذوب في التراب، ليكن، ليكن، ولكن الفكرة الثورية، فلسطين، باقية تتحفز وتنفجر وتبشر بالثورة وميلاد جديد. وكان سماح يصدق غسان كنفاني، الرجل الذي عاش مرتين، يقول: ليس في وسع أحد أن يملأ مكان أحد.
وانفجر جسده المريض النحيل في بيروت ثم صارت له حياة جديدة، ولم يغادر الميدان، ما زال يقاتل ويعلم ويحرض أكثر من «الأحياء»، لأنّ ثمة أرواحاً تحلق الآن في سماء بيروت لم تتعب من المعركة، لأنّ ثمة بشراً يصعب قتلهم بالرصاص أو بالسرطان. انهم الشهداء العشاق ومن يتركون حروفهم وبصماتهم مثل وشم يلمع في الظلام، كلما ضاق الدرب وانتشرت العتمة أشعلوا نيرانهم من جديد.