قد تختلف أو تتفق مع سماح إدريس، إلا أن ذلك أبداً لا يجعلك لا توافق على أمرٍ واحدٍ ميّز المناضل الراحل: ثبات رأيه، وصوابيته في تفسير/تمييز الفارق الرئيس بين «مناضلي الفنادق» و«مناضلي الخنادق»، الذين أصبح إسمهم لاحقاً: «ناشط مجتمع مدني» و«مناضل فعلي على الأرض». لم يكن بيني وبين سماح ادريس معرفةٌ مسبقة، حينما طلب مني العزيز بيار أبي صعب، أن أذهب لمقابلة سماح، بصفته مديراً لـ «دار الآداب»، والحديث حول الإصدارات الجديدة لمعرض الكتاب قبل ثمان أعوامٍ حسبما أذكر. زرته، بدا متعباً، تحدثنا مطوّلاً حول «دار الآداب»، وافتتاني بما ينتجونه، وبتجربة والده. بدا الرجل مباشراً، قليل الإبتسام، ولكنه كان عارفاً تماماً ما يفعله. حدثني عن الكتب، وكان دمثاً للغاية. أتذكر سماح اليوم، ونقاشنا حول تجربة «دار الآداب»، حول عمل والده الراحل سهيل ادريس، ودور والدته عايدة مطرجي العميق الأثر في تخليق أدبٍ يستحق القراءة. كنتُ وما زلت مفتوناً بتلك التجربة التي لم يكن الراحل جزءاً منها فحسب، بل عنصراً رئيساً؛ سألني أكثر حول ما أعرفه عن التجربة وما أود معرفته أكثر عنها، وهو يعرّفني بوالدته ويهديني بعض كتب «دار الآداب» من تلك السنة. مرت الأيام، عدنا والتقينا كثيراً في مناسباتٍ متعددة؛ لكن أبرز ما جمعنا ربما هو شيءٌ واحدٌ أكثر من غيره. أمرٌ اتفقنا عليه دونما حتى اتفاق: نظرتنا إلى المجتمع المدني الممول خارجياً. كان سماح غير مرةٍ يحاضر ويقولها في العلن، وربما هو واحدٌ من قلةٍ قليلةٍ تصرح بالعلن عن الدور «التخريبي» المخيف والمرعب للـNGO’s أينما حلت وفي أي موقعٍ كانت. وأذكر جملته اللافتة ذات مرّة: «لماذا يأتي أحدٌ ليعطيك أي شيء بلا مقابل؟». هذا السؤال البسيط الذي لا يستطيع كل أتباع/موظفي/زبانية المجتمع المدني الإجابة عليه. أضفت إلى كلامه سؤالي المشابه: هل إذا ما كنت في الشارع وجاء أحدهم إليك حاملاً مبلغاً من المال، هل تأخذه بدون سؤالٍ حول ماهية هذه النقود؟ أو حتى هل لماذا أعطاك إياها هذا الشخص؟. هذا بالضبط ما يحصل مع الـNGO’s ولايزال يحصل حتى اليوم. جمعياتٌ تصب «حمم» نقودها على مناطق بلادنا ألأفقر، بدون أي سببٍ إلا «مساعدة» شعوب هذه المنطقة، كما تشير تقاريرها وكل ما يقوله موظفوها المبتسمون ابتسامات ذئابٍ بلهاء لا أكثر. هم يعتقدون بأننا لا نعرف، وبأن الناس أيضاً لا يعرفون، لكننا نعرف، وهم يعرفون أننا نعرف كذلك.
ربما يرحل سماح اليوم، لكننا ألف سماحٍ اليوم. قد يعتقد بعضهم، ضمن أدبياتٍ مهزومة بأن سماح قد رحل بدون أن تكتمل رسالته، لكن الحق يقال بأنّ الرجل ترك «نظاماً» مهماً يمكن المراكمة عليه: لقد جعل فكرة «المقاومة عبر المقاطعة» فكرةً حقيقيةً قابلة للتطبيق، لا مجرّد نظرية، فضلاً عن إبعاد منطق أنّها «خشبية» شأن جميع أفكارنا الثورية والتقدّمية بحسب مثقفي الخليج والتطبيع وجمعيات الـ NGO’s. قد يرحل سماح اليوم، لكننا سنكمل الدرب، وسنكمله أكثر مما كنا عليه يوماً، ذلك أن الناس، مهما حدث، سيظلون متنبهين إلى أنَّ هذا المحتل راحل، ذاك أولاً، وثانياً سيرحل موظفو الإحتلال، زبانيته الذي يلتفون حوله تحت أي إطارٍ كانوا NGO’s أم سواه. هذا ما كان سماح عليه دائماً، وهذا ما نكمل الدرب عليه.