1. كلّ هذا صنيع الحظّقد يكون حدثَ. وجب أن يحدث. حدث مبكّراً. متأخّراً. قريباً. بعيداً. حدث وإنّما ليس لك.
تخلّفت، لأنّك الأوّل. تخلّفت، لأنّك الأخير. لأنّك كنت وحدك. لأنّ أناساً كانوا هناك. لأنّ الأمر كان يَسرةً. لأنّ الأمر كان يَمنةً. لأنّ المطر كان يتساقط. لأنّ الظّلال كانت ترخي بنفسها. لأنّ الجوّ كان مشمساً.
لحسن الحظّ كانت هناك غابة. لحسن الحظّ لم تكن هناك أشجار. لحسن الحظّ السّكّة الحديد، عطفة، جسر خشبيّ، مكبح، إطار، منعطف، مليمتر، ثانية. لحسن الحظّ كانت الشّفرة طافية على الماء.
لأنّ، لكون، رغم أنّ، ولو أنّ. ماذا كان سيحدث لو أنّ اليد، الرّجل، على مسافة خطوة، شعرة من تلاقي الصّدف.
ما زلت هنا؟ خارجاً من لحظة ما زالت مفتوحة؟ لم تكن في الشّبكة عدا عين واحدة وها أنت قد نفذت منها؟ لم أعد قادرة على الاندهاش، على الصّمت. اِسمع كم يخفقني قلبك بسرعة.

2. حوار مع الحجر
أطرق باب الحجر.
— أنا ذي، دعني أدخل. أريد الولوج بداخلك، إلقاء نظرة به، تنفّسك حتى الأعماق.
— إليك عنيّ، يقول الحجر. أنا محكَم الإغلاق بدورتي مفتاح. وحتى لو شُطرنا إلى ألف قطعة سنكون مغلقين أيضاً. وحتى لو سُحقنا غباراً لن ندع أحداً يدخل.
أطرق باب الحجر.
— أنا ذي، دعني أدخل. أتيت حبّاً للاستطلاع. الحياة هي الفرصة الوحيدة لذلك. متمسّكة أنا بالتّجوال في قصرك، قبل زيارة الورقة وقطرة الماء. لا أتوفّر على وقت كثير من أجل كلّ هذا. قد يثيرك أني شخص فانٍ.
أنا من حجر، يقول الحجر. أنا مرغم على حفظ وقاري. إليك عني، فلا وجْنات لديّ.
أطرق باب الحجر.
— أنا ذي، دعني أدخل. قيل لي إنّ فيك غرفاً كبيرة وخالية، ما لا عين رأت، ذات بهاء يتبرعم بلا جدوى، خرساء، حيث لا خطوة تسمع أبداً. اِعترف الآن أنّك لا تعرف أكثر من هذا.
— غرف كبيرة وخالية، أي نعم، قال الحجر، لكن لا مكان فيها لأحد. جميلة، لربّما، ولكن مستحيلة المنال عن حواسّك الخمس البئيسة. يمكنك أن تعرفيني، ولكن أن تحسي بي، أبداً. كلّ مظهري ينظر إليك وجهاً لوجه، لكنّ ما بداخلي يدير لك ظهره للأبد.
أطرق باب الحجر.
— أنا ذي، دعني أدخل. أنا لا أبحث فيك عن ملجأ للأبد. لست شقيّة. لست بدون مأوى. العالم الّذي أعيش فيه يستحقّ أن نعود إليه. أعدك أن أدخل وأخرج خالية الوفاض، وكدليل على حضوري الفعليّ في قلبك لن أقول إلاّ كلمات لن يزكّيها أحد.
— لن تدخلي، قال الحجر. ينقصك حسّ تقاسم الأشياء. لا حسّ يعوّض حسّ تقاسم الأشياء. حتىّ النّظر الثاقب حدّ الانبهار لن يكون لك عوناً بتاتاً دون تقاسم الأشياء. لن تدخلي، ليس لديك إلا هذا الحسّ، إلا بذرته، صورته.
أطرق باب الحجر.
— أنا ذي، دعني أدخل. ليس بمقدوري الانتظار ألفَي قرن للولوج تحت سقفك.
— إذا لم تصدّقيني، قال الحجر، اذهبي لملاقاة الورقة، ستقول لك نفس الشّيء، أو قطرة الماء الّتي ستؤكّد ذلك. يمكنك حتى أن تكلّمي شعرة من رأسك. أحسّ بأنّ قهقهة هائلة تتصاعد فيّ، قهقهة فسيحة لا أدري كيف سأضحكها.
أطرق باب الحجر.
— أنا ذي، دعني أدخل.
— لا باب لي، قال الحجر.

3. الساعة الرابعة صباحاً
ساعة من اللّيل للنّهار. ساعة من الخاصرة اليمنى لليسرى. ساعة لما قبل الثّلاثين حولاً.
ساعة كنست تحت غناء الدّيكة. ساعة يبدو فيها أنّ الأرض تطردنا. ساعة حيث تجمّدنا نفس النّجوم الخابية. ساعة التّساؤل عما سيفضل منّا.
ساعة فارغة، خرساء، قاحلة. عمق أعماق كلّ الساعات الأخرى.
لا أحد بحقّ في الساعة الرابعة صباحاً. إذا كان النّمل بحقّ في الرابعة صباحاً، فتحيّتي للنّمل. ولكن فلتأت الساعة الخامسة بسرعة، فهكذا لنا أن نبقى على قيد الحياة.

4. محطّة
عدم وصولي إلى محطّة سين كان في الوقت المحدد. أعلمتك برسالة لم أبعثها. لم تأت في الموعد بالضّبط كما كان منتظراً. وصل القطار إلى الرّصيف 3. نزل أناس كثيرون. تبع غياب شخصي الحشد حتى الخروج. عوّضتني بعض النساء بسرعة في هاته المشية السريعة. استقبلت إحداهنّ من طرف شخص كنت أجهله، لكنّها تميّزته فوراً. تبادلا سريعاً قبلة لم تكن لنا، إثرها تمّ تضييع حقيبة لم تكن لي.
توفّقت محطّة سين في امتحان الوجود الموضوعيّ.
كلّ شيء مثبّت في مكانه. التفاصيل تتحرّك بنظام على خطوط حديديّة عُيّنت سلفاً. بل حتى الموعد كان قد تحقّق من دون أن يستطيع حضورنا الوصول إليه.
في فردوس الاحتمال المفقود. خارجاً. خارجاً. أيّ موسيقى في هذه الكلمة.

5. بصلة
لا شبيه للبصل. لا أمعاء له. ليس البصل إلا نفسه بصلياً بطبيعة الحال. متبصّل خارجاً، مباصل حتى القلب. يمكن لبصلتنا أن ترى، دون خوف.
نحن: أولاء الأغراب والمتوحّشون الكاسون بالكاد جلداً، ذاك الجحيم المغلق، ذاك التّشريح الحارق، أما البصلة فليست سوى بصلة، دون أحشاء ملتوية. عري متجمهر، بهيئة إلى آخره. قدر جليل وتحفة مكتملة الصنعة. واحد يقود دوماً نحو الآخر من الكبير للأصغر، هذا للأقرب منه، ثمّ للموالي. إنّها فرار متقاطب المركز. الصّدى المثنيّ في شكل جوقة.
البصلة، إنّها تستحقّ الهتافات والتّصفيق: أبهى بطن على الأرض وهو يشتمل بهالات متعاظمة. أما فينا نحن: أعصاب، دهون وعروق، مخاط وإفرازات. حرمنا من الكمال البليد.

6. مثال
اقتلعت العاصفة، اللّيلة، كلّ الأوراق من شجرتي، إلّا واحدة، يتيمة، لتهزهز، في كامل عريها، على فَنن. تعلن القوّة الجلفاء، من خلال هذا المثال، أنّها — لم لا — أحياناً، تمنح نفسها حقّ السّخريّة بضربة رعناء.

المصدر:
Wislawa Szymborska: De la mort sans exagérer, Poèmes 1957-2009, Trad. du polonais et préfacé par Piotr Kaminski, Collection Poésie/Gallimard, Gallimard, 2018.