من قمّة إلى قمّة يسير برنامج مهرجان «بيروت ترنّم»، بين باخ و«تنويعات غولدبرغ» التي سمعناها مطلع الأسبوع وموزار و«القدّاس الكبير» الذي نسمعه مساء غدٍ الجمعة. بالنسبة إلى القمّة الأولى، أدّى ثلاثة عازفين إيطاليّين (كمان، ألتو وتشيلّو) هذا العمل، المكتوب بالأصل للهاربسيكورد، منقولاً إلى تركيبة وترية ثلاثية، مألوفة إلى حدٍّ ما في الديسكوغرافيا الكلاسيكية (هناك أكثر من عشرين تسجيل من هذا النوع، بعضها مغمور وبعضها الآخر معروف). بالمجمل، كانت أمسية ناجحة، سرت في جوّ عام ثابت الجمال، تخلّله بعض اللحظات الممتازة في الأداء أكان لناحية التقنيات أو الإحساس، وبعض الثغرات (أتت من الحلقة الأضعف في الفرقة: عازف الألتو). وقد اعتمد الثلاثي تنفيذ كل الإعادات في المقطوعات الـ 32 (كلٌ منها يتألّف من جزئَين متتاليَين، يُترَك للموسيقيّين قرار إعادة عزف الجزئَين أو نادراً إعادة أحدهما)، وهذا أمرٌ يُضاعف المتعة بالتأكيد، إذ تُضاف عموماً بعض التلاوين عند الإعادة، علماً أنها كانت محدودة في الأمسية. بالإضافة إلى ما سمعناه، ثمة خسارة في ما لَم نسمعه، إذ أسقطت الفرقة، كليّاً، ثلاثة تنويعات من البرنامج دون إنذار ولا تبرير، وهي الأرقام 20 و26 و29، لكن يمكن ردّ ذلك ربّما إلى صعوبتها التقنية (مع أنها لا تتخطى في هذا السياق العديد من «زميلاتها»).أما القمّة الثانية، فمن ريبرتوار الطفل المعجزة، حبيب الملايين، موزار. إنها «القدّاس الكبير»، وهو ليس الوحيد عند المؤلّف النّسماوي، لكنه الأكبر بالتأكيد. علماً بأنّه غير مكتمل، إذ قطع موزار تأليفه لسبب غير مثبت تاريخياً بشكل أكيد. وأبرز ما هو «ناقص» في القدّاس هو قلبه، أي فعل الإيمان (الـ «نؤمن») الذي لم ينجز موزار، موسيقياً، إلاّ جزءاً منه. أما الأهم، فهو أن هذا العمل الديني كتبه موزار بدون «وصاية» من المؤسسة الدينية، أي برغبة شخصيّة إذ يعود تاريخ تأليفه إلى ما بعد تحرّره من عبودية أسقف سالزبورغ، سيء السمعة والذكر، كولوريدو.
من جهة ثانية، إلى جانب الجوقة الكبيرة (جوقتان في الواقع) والأوركسترا، يرتكز هذا العمل على صوت السوبرانو، إذ يتطلّب مغنّيتَين من هذه الفئة الصّوتية (تجتمعان أحياناً)، بالإضافة إلى فيئتَي الرجال. في «بيروت ترنّم»، يقود هذا العمل، في «كنيسة القديس يوسف» (مونو ــ الأشرفية)، الأب توفيق معتوق على رأس الأوركسترا الوطنية وجوقتَي «الأنطونية» و«سيّدة اللويزة» والمغنّين المنفردين الأربعة.
منذ ثلاثة قرون لم تعرف البشرية، موسيقيّاً، أكبر من القداديس الثلاثة التالية: قداس باخ (المعروف بنغمته: B minor) و«القدّاس الكبير» لموزار و«القدّاس الاحتفالي» لبيتهوفن. وفي الواقع، فرصة أن نسمع إحدى هذه التحف في أداء حيّ باتت نادرة في بلدنا. لذا، شدّوا الهمّة، ثم الأحزمة، وتعالوا نطير صوب المنتهى على أجنحة موزار الطاهرة… فموسيقاه هي القدّاس الجامع، بخلاف القدّاس بمعناه الديني. ملفتٌ، أليس كذلك؟

«القدّاس الكبير»: غداً الجمعة ــ الساعة الثامنة مساءً ــ «كنيسة القدّيس يوسف» (مونو ــ الأشرفية). للاستعلام: www.beirutchants.com