تحظى تجارب تلفزيونيّة لبنانيّة كثيرة بالاهتمام، لا سيّما تلك التي يحاول صنّاعها تقديم شيءٍ مختلفٍ عن المعتاد. إحدى هذه التجارب مسلسل «وعيت» (awake) للمخرج مازن فيّاض والكاتبة ناديا طبّارة. رغم أنه قد عُرض عام 2019، إلّا أنَّ الأحداث التي عصفت بالعالم، من حجر ووباء، وربّما أيضاً غيابه عن السّباق الدّرامي الرمضاني المعتاد... كلّ هذه العوامل أدّت إلى سقوطه من اهتمامات المشاهدين، أو تحقيق الضّجة المطلوبة. وها هو يعود إلى الواجهة من باب قناة arte الفرنسية الألمانية، ليكون أول مسلسل لبناني يُعرض على منصّتها. المسلسل الذي يعد بالكثير، يحكي قصّة «دانا» (فلافيا بشارة) التي تستيقظ من الغيبوبة التي أصيبت بها عند اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) عام 2005. بعد 12 عاماً، تستيقظ دانا لترى أنّ الدنيا تغيّرت: لا تعرف الفتاة المستيقظة حديثاً أيّ شيء عن عالمٍ بات لا يُشبهها البتّة. على مدى 16 حلقة هي مدّة العمل، تخوض البطلة رحلتها في اكتشاف كلّ ما حولها بدءاً من عائلتها وانتهاءً بكلّ المتغيّرات التي باتت لا تعرف عنها شيئاً. مؤلّفة القصّة ناديا طبّارة، القادمة من أميركا حيث عملت لسنواتٍ، كانت قد شاركت في السّابق في مسلسلاتٍ أميركية معروفة مثل The Good Wife، وأفلام من قبيل New York I love You؛ وعادت إلى لبنان كي تؤسّس شركتها Fade in الخاصة بالمجال الدرامي. يبدو عملها واضحاً في كتابة نصٍ مختلف إلى حدٍ كبير عن معتاد الدراما اللبنانية، وإن شابه بعض الأخطاء. نقاط قوّة المسلسل تكمن في مطارح عدّة، نبدأها مع فريق الممثّلين: تبرع فلافيا بشارة في تأدية دور البطلة دانا. تعرّف الجمهور إلى فلافيا قبلاً مع فيلم «طيارة من ورق» (2003) للمخرجة الراحلة رندة الشهّال (وشارك في الفيلم زياد الرحباني وقتها، ما أعطى العمل زخماً وضجةً كبيرين). تؤدّي فلافيا «كاركتير» الفتاة الخارجة من الغيبوبة، لكنّها في الوقت نفسه، تلعب دور نفسها وإن «المتخيّلة»، وهذا يعطي شخصيّتها بُعداً جميلاً. شخصيّتان تؤدّيهما، واحدة لا يراها أحد سوى المشاهدين في كسرٍ للجدار الثالث مع المشاهدين من المسرح الستانسلافسكي التقليدي، وفي الوقت نفسه في تطويع لفكرة الـIn and out من مدرسة الكتابة الإبداعية. بدورها، تنجح ستيفاني عطالله بدور شقيقة البطلة لمى، وهنا يُحسب لها أنّها أعطت للعمل الكثير من الحركة والزّخم، خصوصاً مع بطء المشاهد، في الحلقتين الأوّليَّين. لولا اندفاع عطالله ومشاعرها الظاهرة، لأصاب الملل المشاهدين لناحية إصرار المخرج على تباطؤ المشاهد، حركة الأبطال، في محاولة لاستنساخ الدراما والأفلام الفرنسية (والأوروبية عموماً).
تبدو البيوت فعلياً كما لو أنّها من محلات عرض الديكورات المنزلية!

المهارة نفسها تنسحب على أداء محمد عقيل الجميل الذي أثبت حضوره أكثر من مرّة وفي غير مسلسلٍ، ونجح درامياً منذ أدائه المتّقد في مسلسل «بيروت واو» للمخرج فادي ناصرالدين. عقيل كما ستيفاني عطالله ينجحان في الخروج من تكرارية الممثل اللبناني التقليدي الذي يُعيد نفسه في أي عملٍ يؤدّيه: تجده هو نفسه في كل الأدوار التي يلعبها. النقطة الثانية الجميلة في المسلسل استخدام الخيال واللاوعي الذي تعيشه البطلة في إحياء التفاصيل؛ وهذه واحدة من الميّزات الممتعة. مثلاً نشاهد البطلة حين تزور شارع الحمرا وتطالع صورة الغرافيتي الكبيرة للفنانة الراحلة صباح، لنجد الصورة محرّكة، وصباح تغنّي بطريقتها المعهودة وإن بذات شكل الرسوم. في مرةٍ ثانية، نجدها تحرّك الكلمات والحروف المكتوبة حتى تتجسّد أمامها، وبهذا نجح المخرج كما الكاتبة في تقديم «ما تراه البطلة» في داخلها للمشاهد. بدوره، يبدع كميل سلامة في المسلسل. وهو بأدائه، يبدو كما لو أنه فاكهة المسلسل الجميلة: إنه الشرير المرعب الذي يبث مع كل كلمةٍ أو تصرفٍ مهما بدا بسيطاً، الكثير من الخوف في كل من حوله. وفي هذا ترفع للممثل والمخرج اللبناني القبعة أكثر من مرّة. النقطة الثالثة التي يمكن اعتبارها من ميّزات المسلسل هو خلق قصص متوازية في العمل، ضمن منطق الـparallel stories وهو من سمات المسلسلات الأميركية عادةً. عدّة قصص تتقاطع فيما بينها، وتستمر من دون أن تتداخل: لدينا قصّة دانا الخارجة من الغيبوبة، ولدينا قصّة بطل العمل غسّان (طارق يعقوب) وشركته للإعلانات، والوالد (محمد عقيل) صاحب التجارة المريبة، وقصص أخرى تظهر في الحلقات تباعاً.
أخطاء المسلسل، التي يجب الحديث عنها، تبدأ من الإصرار على فكرة الـproduct placement وإن بشكل فجّ للغاية: نشهد إعلانات قهوة ومكّسرات (وسواهما) بمعدّل إعلان لكل أربعة مشاهد من المسلسل، وهذا خطأ فادح في صنعة الدراما؛ وتثقيل لها. يعلم الجميع أنَّ هذه الإعلانات تموّل جزءاً كبيراً من الأعمال، وهذا أمرٌ بديهي ومنطقي، لكن أن تظهر ماركة قهوة، وآلة صناعة القهوة الخاصة بها، ثم كبسولات القهوة، ثم كيس القهوة في مشاهدٍ متلاحقة وصولاً إلى عمل البطلة على إعلانات للشركة، فهذا أمر مبالغ به جداً، ومنهك في إدارة المسلسل وكتابته. لعلّه كان من المستحسن ــ بحكم خبرة الكاتبة ــــ أن يأتي الإعلان بشكلٍ سلس أكثر، مختفياً بهدوء كعادته في الدراما والمسلسلات الأميركية. نقطة أخرى تُضاف إلى أخطاء المسلسل أنه في الحلقة الأولى يبدو كما لو أنّه «فيلم فرنسي» لناحية هدوئه الشديد، وأسلوب حركة الكاميرا، ولا يُشبه أي مسلسل لا غربي ولا عربي. لربما هي محاولة للتميّز، لكن قد لا يحتمل المشاهد العربي هذا النوع من الأعمال، وهو أمرٌ قابل للقياس كما للنقاش. أمرٌ آخر يمكن الحديث عنه في أخطاء المسلسل، هو أن المشاهد لا يشعر بأن المسلسل «عربي» أو يؤدّى في بلدٍ عربي إلّا من خلال أشكال الأبطال وأسمائهم. بخلاف ذلك، هناك شعور كبير أننا أمام مسلسل غربي: الأبطال أشكالهم بمعظمها غربية، بيوتهم غربية (تبدو البيوت فعلياً كما لو أنّها من محلات عرض الديكورات المنزلية، أو تلك التي تبيع المفروشات)، منطقهم وسلوكهم اليومي غربي، طبعاً لا نقاش لناحية أن الناس في لبنان يتصرّفون ببعض «التغريب»، لكن سكان المشرق بمعظمهم «مشرقيون»: الأم مثلاً لا تشبه الأمهات المشرقيات، فهي تطلب بكل مباشرة، وبشكل فعلي من الوالد «ترك ابنته تموت»، وبطريقةٍ تبدو كما لو أنّها تتحدث عن «غرضٍ منزلي» تنوي الخلاص منه، لا ابنتها. قد يكون هذا مقبولاً أو منطقياً في الغرب، حيث الترابط العائلي ضعيف ربما، لكن في لبنان، أو المشرق؟ يحتاج الأمر نقاشاً.
في المجمل، يعتبر المسلسل خطوة جيدة في تطوير الدراما اللبنانية، وخروجاً من عباءة معتاد الممثلين اللبنانيين، كل هذا يجعله يأخذ مكاناً ولو كخطوةٍ أولى.

awake على «شاهد»
ومنصّتي osn وarte