«هناك ما هو أهم من الأم الوالدة؛ الأرضُ هي الأم». تأتي هذه الكلمات المباشرة والمأخوذة من تصريحٍ للمطران إيلاريون كبوجي (1922 ـــــ 2017) بمثابة tagline لوثائقي «أسقفٌ وثائر: المطران إيلاريون كبوجي» الذي أنتجته وتقدّمه قناة «الميادين»، تعريفاً بهذا الرجل الفريد. الآباتي السوري القادم من حلب، أصبح أيقونة مقاومةٍ فلسطينية عربية. ربما وحده الشهيد الراحل عزّ الدين القسّام يمتلك خصوصيةً مشابهة. ولا ريب أنّه لولا بعض التفاصيل التاريخية، لكان المطران استشهد بالطريقة نفسها التي استشهد بها القسّام في قرية يعبد (محافظة جنين).

تعود أهمية استحضار نموذج كبوجي اليوم إلى مبرّراتٍ عدة، وفق ما يخبرنا به معدّ الوثائقي محمد فرّاج: «أولاً، تقديراً وتخليداً لهذه الشخصية المناضلة والمقاومة والمكافحة، ثانياً: ترسيخاً لصورة المطران في دعوته إلى الوحدة ومواجهة مشاريع التفكيك الممنهجة التي تعانيها بلداننا، بما في ذلك مواجهة تداعياتها المتمثلة في تسعير الاقتتال الطائفي والمذهبي. ثالثاً، مقاومةً لنهج التطبيع الذي عبّر عنه كبوجي في موقفه ومسيرته بدون تورية أو مواربة. رابعاً، تذكيراً بقراءة كبوجي لتاريخ المسيحية القائمة على فكرة الفداء والتضحية التي تأتي رداً على أي أطروحاتٍ تضليلية تحاول موضعة المسيحيين الشرقيين أصحاب الإرث النضالي الكبير، في موقع لا يليق بهم وبتاريخهم». إضافة إلى ذلك، يوضح المنتج المنفذ للعمل زاهر العريضي جانباً آخر لهذا الاختيار: «نحن في «الميادين»، نعمل على إعادة استحضار هذه الشخصيات والرموز بشكلٍ مباشر وواضح في نضالاتها. حق وواجب علينا أن نظهره ونقدمه ليس فقط للأجيال القادمة، بل أيضاً للأجيال التي عرفت وعايشت هذه الشخصيات».
يُقدّم الوثائقي ضمن ثلاث ساعاتٍ تلفزيونية كاملة. عُرض الجزء الأوّل يوم الأحد الماضي، على أن يُعرض الجزءان المتبقّيان تباعاً يومَي الأحد في 23 و30 كانون الثاني (يناير) الحالي. يخبرنا محمد فرّاج: «روى الجزء الأول مسيرة المطران من الطفولة إلى رحلة الكهنوت. فمن مناخ حلب ومواجهة الاستعمار الفرنسي إلى مناخ فلسطين واحتلالها، تشكّلت مسيرته التي زرعت فيه الكثير ونما خلالها مطراناً مسلحاً. الجزء الثاني يتناول أجواء محاكمة كبوجي من خلال محكمة الاحتلال، فينقلب دور كبوجي إلى قاضٍ يحاكم بنفسه محكمة الاحتلال لأنّها غير شرعية. أما الجزء الثالث، فيتحدث عن مطاردة طيف فلسطين وظلّها لكبوجي. فبعد نفيه، لم ينفك يفكّر فيها إلى أن ركب البحر وهو في الـ85 من عمره متوجهاً إلى غزة لكسر الحصار». الملاحظ في الوثائقي الذي أخرجته يارا أبو حيدر، أسلوب عملٍ تقنيٍ خاص، إذ «قامت بتخليق تيمة معينة للجو العام للوثائقي، مما أخرجه من كونه مجرد مجموعة لقاءات وشخوص يتحدثون عن المطران» يشير العريضي. تتحرك كاميرا أبو حيدر بخفة ورشاقة لتبتعد عن جمود اللقاءات والرواية الحوارية المعتادة، فتحاول دمج الموسيقى بأغاني تلك المرحلة الثورية وبالكلام المكتوب خلف الصورة وفوقها. «استغرق الفيلم وقتاً للتصوير، لم نستطع أن نسافر لنكون في مختلف الأماكن التي مرّ بها المطران في حياته، خصوصاً فلسطين المحتلة»، تخبرنا المخرجة يارا أبو حيدر، كيف تمّ التعاون مع مراسلتَي «الميادين» في فلسطين هناء المحاميد ونسرين السلمي، اللتين أدتا دوراً كبيراً في الحصول على المقابلات مع الشخصيات التي عاصرت المطران، وكذلك في إضافة مشاهد أعطت روحية خاصة للوثائقي: «لقد صُوّرت في فلسطين العديد من المشاهد rushes (لقطات سريعة) ولو لم تكن متصلة بشكل مباشر بالكلام الذي يقال، لكنّها لكونها من فلسطين، تلامس روح هذا الكلام وسلوك المطران كبوجي» تشير أبي حيدر.
صوّر العمل في العديد من الدول وليس في لبنان فحسب، فكان التصوير في فلسطين، سوريا، وبريطانيا (لندن)، وتضمن لقاءات غنية مع شخصيات عايشت وعاصرت المطران الراحل... من مفاجآت العمل استضافة إدوارد عيسى، أحد السجانين المسؤولين عن المطران إبان فترة اعتقاله لدى العدو الصهيوني، لكي يعطي شهادته المؤثرة حول المطران. وعن كيفية اختيار الشخصيات، يقول فراج لنا إنّه «جاء بناءً على التجارب المشتركة للضيوف مع المطران: تجارب نضالية كانت قريبة منه أثناء تمرير السلاح للمقاومة، شخصيات عاشت وهج تحشيده للناس حول مشروع المقاومة في فلسطين، شخصيات جالسته وعرفته وحاورته وسمعت منه هواجسه ومواقفه، ووجوه كانت على علاقة شخصية معه أو ضمن أطر القرابة أيضاً. كما كانت هناك شخصيات لها وزنها في الكنائس الشرقية، عرفته وعايشت تجربته وتفاعلت مع قراءته المعمقة للمسيحية والمقاومة وجدلية العلاقة بينهما».

«أسقفٌ وثائر: المطران إيلاريون كبوجي»: 21:00 بتوقيت بيروت يومي الأحد في 23 و30 كانون الثاني (يناير) الحالي على قناة «الميادين»