تحيّة لكم أيّها الأصدقاء، وشكرًا لدعوتكم، وخصوصًا في هذه الفترة التي ما فتئتْ تَبْخلُ علينا بمبادراتٍ تتخطّى الحساباتِ الانتخابيّةَ الضيّقة، كي تعيدَ توجيهَ البوصلة نحو فلسطين. وأحيّي الرفاقَ الذين أوقفتْهم الأجهزةُ الأمنيّةُ اللبنانيّة، وحقّقتْ معهم، بـ"تهمة" إلصاق شعاراتٍ تندّد بزيارة البطريرك الراعي إلى الكيان الغاصب.1 لقد كان أجدرَ بالأجهزة أن تحقّقَ مع القتلة، والعملاءِ، والمطبّعين، وسارقي المال العامّ، والفاسدين، والطائفيين،... لا مع مناهضي التطبيع الشرفاء أمثالكم.
أيّها الأصدقاء،
نجتمع اليوم لنتحدّث عن ظاهرة تعامُل بعض اللبنانيين مع الإسرائيليين،عبر بوّابة الزيارات الدينيّة، أو النشر، أو الحوار الإعلاميّ، أو ورش العمل.

أبرزُ ما جرى مؤخّرًا، كما تعلمون، كان قرارَ البطريرك الراعي زيارةَ الأماكن المقدّسة في فلسطين المحتلّة. وكانت حملةُ مقاطعة داعمي "إسرائيل" قد نشرتْ رسالةً مفتوحةً إليه تُظْهر مخاطرَ الزيارة المرتقبة، وتناشدُه العدولَ عنها.2 في الرسالة سألناه إنْ لم يكن يعرفُ وسائلَ أخرى للتواصل مع "رعيّته" في فلسطين، كالسكايْب مثلًا؛ ذلك لأنّ التواصل المباشر مع الرعيّة السجينة يطبّع العلاقة مع مَن يحتلّ فلسطينَ ولايزال يحتلُّ قسمًا من الأرض اللبنانيّة وينتهك سيادتَها يوميًّا. وسألناه إنْ كان إحجامُ بطاركة بكركي في السابق عن مثل هذه الزيارة "إهمالًا لمصالح الرعيّة في فلسطين". وسألناه عن موقفه من الكنيسة الأرثوذكسيّة (القبطية) في مصر، وهي التي منعتْ رعاياها من السفر إلى الأراضي المقدّسة قبل تحريرها، بل هدّدتهم بحرمانهم "تناولَ القربان المقدّس" سنةً كاملةً إنْ ذهبوا إلى القدس. كما سألناه إنْ لم يعتقد أنّ زيارته ستشكّل إضعافًا لجهود حركة المقاطعة الفلسطينيّة والعالميّة، وخصوصًا جهود عشرات الكنائس وآلاف المؤمنين المسيحيين في العالم الذين يشكّلون جزءًا هامًّا من "حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (بي. دي. أس). وفي كلّ الأحوال، فقد كنّا واثقين بأنّ إسرائيل، عاجلًا أو آجلًا، ستستغلّ هذه الزيارة، بغضّ النظر عن نوايا البطرك، لتظهر نفسها دولةً متسامحة، ترحّب بكلّ الناس، في حين أنّها ـ على أرض الواقع ـ تمنع الآلافَ من الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، من دخول مقدّسات القدس تحديدًا.
الرسالة لم تأبهْ كثيرًا لـ"الشكليّات": فمخاطرُ الزيارة، في عُرفنا، لا تزولُ بتفادي سفر البطرك ضمن الوفد البابويّ في طائرةٍ إسرائيليّة، ولا باستخدامه جوازَ سفرٍ فاتيكانيًّا لتجنّب الختْم الإسرائيليّ على جواز سفره اللبنانيّ، ولا بتعهّدِه عدمَ لقاء أيِّ مسؤولٍ إسرائيليّ، ولا بتأكيد أوساطه أنّه لن يكونَ في حراسة جنودٍ إسرائيليين خلال تجواله في فلسطين المحتلّة.3 الزيارة خطيرة، تحديدًا لأنها تقدّم الرعيّةَ على القضيّة. والقضيّة الفلسطينيّة تتخطّى الموارنة والمسيحيين والمسلمين واللبنانيين، بل تتخطّى العربَ ومقدّساتهم ذاتها، لأنّها قضيّةُ العدالة والإنسانيّة في العالم أجمع. حول هذه القضيّة يجتمع، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى منذ النكبة، عشراتُ آلاف الأنصار من مختلف أنحاء العالم، ضمن حركة "بي.دي.أس" بشكلٍ رئيس، ينشطون على مقاطعة إسرائيل حتى عودة اللاجئين (إلى كامل فلسطين التاريخيّة) وإنهاءِ الاحتلال (لأراضي 67) ونظام الفصل العنصريّ (داخل فلسطين 48).
الراعي لم يردّ على رسالتنا بالطبع. فلا ضيْرَ من أن نضيفَ سؤالًا جديدًا: ما هو تعريفك "للرعيّة" يا غبطة البطريرك؟ هل تقتصر على الموارنة، أمْ تشمل كلّ الشعب الفلسطينيّ الرازح تحت الاستعمار الاستيطانيّ والقهر والعنصريّة منذ 66 عامًا؟ هل تشمل الآلافَ غيرَ القادرين على لقائك بسبب القيود الصهيونيّة؟ وكيف يشمل مفهومُ "الرعيّة" العملاءَ اللبنانيين الذين سمعنا أنّك ستلتقيهم، وهم الذين فرّوا من لبنان عقب التحرير، بعد أن أذاقوا أهلَ الجنوب ومقاومي إسرائيل كأسَ الموتِ والتعذيب بين عاميْ 1978 و2000؟4 ألا يشمل مفهومُ "الرعيّة" مَن ناشدك العدولَ عن الزيارة لأنها لن تسهم في "تثبيت المسيحيين" في أرضهم؟ ألا يشمل فلسطينيّي مخيّم الضبية في لبنان، وهو أقربُ إليكَ من القدس، ومعظمُهم من مسيحيّي الجليل، وهُجّر الآلافُ منهم أثناء سنوات الحرب، ومَن بقي منهم يعاني اليوم شظفَ العيش؟
باختصار، فإننا نرى أنّ زيارة الراعي تصبّ في خانة التطبيع مع العدوّ، وذلك من البوّابة الدينيّة/الرعويّة، وبغضّ النظر عن النوايا. ولعلّ أخطرَ ما فيها أنّها قد تشرّع البابَ أمام آخرين، من داخل "الرعيّة" أو من خارجها، يقتدون بـ "نموذج" الراعي كي يقوموا بنشاطاتٍ ذات طابع تجاريّ وثقافيّ وسياسيّ، بما يَخدم دولةَ العدو، بل يُسهم في خلق تصدّعاتٍ إضافيّةٍ في المجتمع اللبنانيّ الذي عاش حربًا أهليّةً داميةً كان أحدُ أبرز أطرافها متعاملًا مع "إسرائيل" ومع احتلالها، المستمرّ حتى اليوم، لجزءٍ من الأراضي اللبنانيّة.
***
أنتقلُ إلى موضوعة تعامل بعض اللبنانيين والعرب مع الإسرائيليين عبر البوّابة الثقافيّة. وأقصد هنا المجالاتِ الآتية: مقابلات يُجْرونها مع وسائل إعلام إسرائيليّة، نشْر كتبهم في دُور نشرٍ إسرائيليّة، مشاركاتهم في ورش عمل أو مؤتمراتٍ تضمّ إسرائيليين.
ولكنْ، بداية، نسأل: ما هو تعريفُنا للتطبيع؟
في نوفمبر 2007، وتحديدًا في المؤتمر الوطنيّ الأوّل في فلسطين لحركة "بي.دي.إس"، أقرّ ممثّلو الأحزاب والنقابات والهيئات الشعبيّة ومنظّمات الدفاع عن حقّ العودة والمنظّمات الأهليّة، وبالإجماع، وثيقةً تطرح الحدودَ الدنيا في تعريف التطبيع، وذلك بحكْم ظروف الاحتلال والشتات التي يرزح تحتها الشعبُ الفلسطينيّ، وبحكم حرصِ حركة المقاطعة على حشدِ أكبرِ قسمٍ من الرأي العامّ الدوليّ خلفها من أجل عزل "إسرائيل" في شتّى المجالات.5 ومن هنا اقتصرتْ معاييرُها على كلّ ما يضربُ "الحقوقَ الفلسطينيّة غيرَ القابلة للتصرّف" بموجب القانون الدوليّ، وتحديدًا: "الحقّ في تقرير المصير، بما فيه حقُّ اللاجئين في العودةِ والتعويضِ طبقًا لقرار الأمم المتحدة رقم 194، وكافّة القرارات المتعلّقة بعروبة القدس وبعدم شرعيّة الاستيطان ومصادرة الأراضي وتهجير السكّان بالقوة وتغيير الجغرافيا والديموغرافيا".
هذه المعايير جيّدة في رأيي بشكل عامّ، ولكنّها لا تتماشى تمامًا مع المعايير التي نرى أن يتبنّاها المقاومون والمقاطعون اللبنانيّون مثلًا. فهؤلاء يعيشون في بلدٍ لا يعترف بـ "إسرائيل"، وطردَها من معظم أراضيه، وألغى اتفاقَ 17 أيّار معها، ومازال قادرًا على إيلامها بشدّة. ومن هنا فإنّنا ـ كلبنانيين ـ غيرُ مضطرّين إلى الاكتفاء بالقانون الدوليّ، الذي لا ينصّ على تحرير كامل فلسطين، وهو حلمُ ملايين العرب وهدفُهم الأسمى منذ النكبة.
فإذا انتقلنا إلى معايير "بي. دي. أس"، وجدنا أنّها تطلب إلى المتضامنين الدوليّين حصرَ مقاطعة إسرائيل "بالمؤسّسات الإسرائيليّة" المتواطئة مع أيّ جانبٍ من جوانب نظام الاضطهاد الاستعماريّ الإسرائيليّ. ولكنّها حين تُفْردُ وثيقةً للحديث عمّا تطالبُ به العربَ والفلسطينيين، فإنّها تنصُّ على الآتي: "في السياق الفلسطينيّ والعربيّ، نرفضُ أيّ علاقةٍ مع أيّ جهةٍ إسرائيليّةٍ إذا كانت العلاقةُ خارج سياق مقاومة الاحتلال والاضطهاد، وإذا كانت الجهةُ الإسرائيليّة لا تؤيّد جميعَ الحقوق الأساسيّة للشعب الفلسطينيّ، أيْ أيضًا حقّ العودة للاجئين".6 وفي ظنّنا أنّ هذا التوضيح مهمّ جدًّا، ولكنّه قد يسمح للمطبّعين الخبيثين بأن يزعموا أنّ علاقتهم ليست خارج ذلك "السياق" (وهو ما فعله مُخرجٌ سينمائيّ لبنانيّ ادّعى أنّ تصويرَه مشاهدَ كثيرةً من فيلمه في تل أبيب، مع ما رافق ذلك من دفع معاشاتٍ وإيجاراتٍ واستخدام طاقمٍ فنّيّ إسرائيليّ للتصوير طوال 11 شهرًا، قد كان في خدمة مقاومة الاحتلال!). وفي رأينا أنّ أنصارَ المقاطعة ومناهضةِ التطبيع في لبنان، مثلًا، قادرون على تبنّي سقفٍ أعلى على هذا الصعيد أيضًا. فالإسرائيليّ اليهوديّ (ولا أتحدّث هنا عن الفلسطينيّ اليهوديّ الذي وُلد في فلسطين قبل إنشاء الكيان)، ولو كان "يساريًّا تقدميًّا"، يعيش على أرضٍ تخصّ فلسطينيين هُجّروا منها بسبب الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ. الموقف الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ السليم، هنا، ينبغي ألّا يكتفي بالأخذ في الاعتبار "رأيَ" الفرد الإسرائيليّ من الاحتلال والعنصريّة، وإنما أيضًا ـ وأساسًا ـ واقعَ استعماره لأرضٍ لم تكن له! لنتذكّرْ هنا رواية غسان كنفاني القصيرة، "عائد إلى حيفا":
فميريام، اليهوديّة التي فقدتْ والديْها في معسكرات الاعتقال النازيّة، شخصٌ هادئ وحنون. وهي، وزوجَها إيفرات، ربّيا ـ وبكلّ حبٍّ وعناية ـ طفلًا عربيًّا "جَبُنَ" والداه عن استرداده بعد النكبة. لكنّ ميريام وإيفرات، في النهاية، احتلّا بيتَ الفلسطينييْن سعيد وصفيّة. و"جُبْنُ" هذين الأخيريْن (التعبير لغسّان) لا يعطي الأوّليْن، المظلوميْن على يد النازيّة، الحقَّ في احتلال بيتهما وسرقة طفلهما.
استحضرتُ كنفاني كي أشدّد على ألّا تجرّنا "الإنسانيّةُ المفرطة" إلى حصر مسؤوليّة الاحتلال بالمؤسّسات وحدها؛ ذلك لأنّ أفرادًا يهودًا إسرائيليين، وبمساعدة وكالاتٍ ومؤسّساتٍ صهيونيّةٍ وداعمةٍ للصهيونيّة، هم الذين يحتلّون أراضي الفلسطينيين أو منازلَهم. ووفقًا لذلك تقترح حملتُنا في لبنان أن نتبنّى سقفًا أعلى في تعريف التطبيع، بحيث يكون الآتي:
التطبيع هو المشاركة في أيّ نشاطٍ يَجمع بين عربٍ وإسرائيليين ما دامت "إسرائيلُ" قائمة. وهذا ينطبق على النشاطات التي تهدف إلى "التعاون" العلميّ أو الفنيّ أو المهنيّ أو النسويّ أو الشبابيّ... مع الإسرائيليين، أو إلى "الحوار" معهم، أو إلى إجراء المقابلات مع وسائلِ إعلامهم، وإلى النشر في دُور نشرِهم ومواقعِهم الإلكترونيّة. ولا يُستثنى من ذلك أيُّ منبرٍ إسرائيليّ لأنّه يستفيد من احتلال فلسطين. كما لا يُستثنى منه أيُّ فردٍ إسرائيليّ ما لم يتخلّ عن جنسيّته الإسرائيليّة ويعلنْ رفضَه لشرعيّة دولة إسرائيل. غير أنّه يُستثنى من ذلك فلسطينيّو مناطق 48، وهم فلسطينيون عربٌ أقحاحٌ، ما لم يروّجْ بعضُهم للتطبيع مع العدوّ.
ولكنْ، ماذا نفعل إزاء المؤتمرات الدوليّة التي نُدعى إليها وتضمّ إسرائيليين؟ لقد اقترحتْ حملتُنا على اللبنانيين والعرب المدعوّين الخطواتِ الآتية: 1) اطلبوا نقلَكم إلى جلسةٍ لا متحدّثين إسرائيليين فيها (والاستثناء السابق ينطبق هنا كذلك). 2) تجنّبوا قدْرَ المستطاع الاحتكاكَ بالإسرائيليين، ولو من موقعِ معارضتهم. 3) تفادوْا قبولَ الدعوات إلى مؤتمراتٍ تموّلها معاهدُ إسرائيليّةٌ أو مؤسّساتٌ صهيونيّةٌ، وتجنّبوا المشاركةَ في تحريرِ كُتبٍ مع إسرائيليين، "متذرّعين" بالقانون (اللبنانيّ) مثلًا، وبالرغبة في عدمِ استفزازِ الرأيِ العامّ العربيّ الرافضِ للتطبيع. 4) استعيضوا من المشاركة في المؤتمرات، المموّلةِ من "إسرائيل" جزئيًّا، بقراءةِ مَحاضرها وأوراقِها بعد انتهاء أعمالها.
***
لماذا نرفض الحوارَ مع الإسرائيليين؟
ـ ألأننا نخافُ من مواجهتهم؟ أبدًا. فلدى المئاتِ من مؤرّخينا، وناشطينا، وطلّابِنا في المنافي وفي الوطن العربيّ، قدرةٌ كبيرةٌ على مقارعة السرديّة الإسرائيليّة الباغية بالسرديّة الفلسطينيّة العادلة.
ـ ألأنّنا نخاف من القانون اللبنانيّ؟ أبدًا. فالقانون الصادر عام 1955 ليس حاسمًا، للأسف، تجاهَ شتّى أوجه العلاقاتِ مع "إسرائيل" إلّا في ما يخصُّ التعاملات التجاريّة؛ ومن المحتمل أن يلجأ المطبّعون إلى ثغراتٍ فيه كي يهربوا من المحاسبة.
نرفض الحوارَ مع الإسرائيليين لأننا نقاطع كيانهم. ونقاطعُ كيانهم للدوافع الآتية:
1) لأننا لا نُقرُّ بشرعيّة وجوده أخلاقيًّا. نعم، هو موجودٌ وحقيقيٌّ ويذكّرُنا بوجوده وحقيقيّته كلّ يوم، مع كلّ مجزرة أو خرقٍ لـ"سيادة" بلادنا. لكنّنا أخلاقيًّا لم ولن نسلّم بشرعيّة وجوده مهما طال الزمن. وهذا السلاح الأخلاقيّ، مهما سخِر منه المثقفون "العقلانيّون" غير "الخشبيّين"، هو من أقوى الأسلحة التي نملكها.
2) لأنّ "التفاوض" لم يخفّفْ من وتيرة ازدياد المستعمَرات والتهويد والتمييز العنصريّ. والأسوأ أنّه زاد الانشقاقاتِ الفلسطينيّةَ الداخليّة، وخلق سلطةً همُّها الأوّلُ والأخيرُ الحفاظُ على "مكتسباتها".
3) لأنّ تجربةَ المقاطعة الأبرزَ في القرن العشرين، وأعني تجربة جنوب أفريقيا، أثبتتْ أنّها قادرةٌ على إنهاك الكيان العنصريّ. وتتعزّز صدقيّةُ هذا الاستنتاج حين نسمع رئيسَ أساقفة جنوب أفريقيا، القَسّ دزموند توتو، يصرّح بأنّ ما أنجزتْه حركةُ المقاطعة العالميّة ضدّ "إسرائيل" خلال بضعِ سنوات يفوق ما أنجزتْه حركةُ مقاطعة جنوب افريقيا لنظام الأبارتهايد خلال 25 سنة! نعم، لقد وصلتْ حركةُ المقاطعة العالميّة إلى بعض أعماق العالم، لا على مستوى النقابات والكنائس والفِرق الفنيّة والرياضيّة ومجالسِ الطلبة والأكاديميين والعلماء والمُخرجين والروائيين فحسب، بل أيضًا، ومنذ بداية هذا العام، على مستوى صناديق الاستثمار والتقاعد والبنوك والشركات الغربيّة الهائلة وغيرها.
***
ومع ذلك فقد يتساءل بعضُكم: أليست "المواجهةُ" المباشرة، بالحوار والمقابلة والنشر داخل الكيان الإسرائيليّ، مفيدةً في اختراق وعي الإسرائيليين والمجتمع الإسرائيليّ؟
الجواب مركّب. لكنْ ينبغي التشديدُ أولًا على أنّ الجغرافيا تلعب دورًا مهمًّا في تحديد تكتيكات المواجهة ودرجات المقاطعة. لقد سبق القولُ إنّ بعضَ معايير "بي.دي. أس" ذاتُ سقفٍ منخفضٍ أحيانًا مقارنةً بمعاييرِ ما يمكن أن يتبنّاه أنصارُ المقاطعة والمقاومة في لبنان. وبالمثل، فإنّنا لا نتوقّع من أستاذٍ عربيّ في جامعة بوسطن ألّا يردَّ على طالبٍ إسرائيليّ في صفّه؛ ولكنّنا نطالبه بألّا يوافقَ على إجراء مقابلةٍ مع وسيلةٍ إعلاميّةٍ إسرائيليّة. كما أننا لا نتوقّعُ أن يمتنعَ فلسطينيو 48 عن التواصل مع بعض مؤسّسات الدولة لأنّ ذلك مستحيل أصلًا؛ ولكنْ يمكننا أن نكون وإيّاهم صوتًا واحدًا في فضحِ مَن يستغلهم الإسرائيليون ليكونوا جسرًا للتطبيع مع الأقطار العربيّة والعالم.
وبالعودة إلى السؤال عن أفضليّة الحوار مع الإسرائيليين، في وسائل الإعلام وورشِ العمل والمؤتمرات، من منطلق الرهان على "اختراق وعيهم"، نقترح الأسئلة الآتية التي تفيد في تحديد الموقف الملائم:
ـ أيُّهما أفعل: أن تواجهَ أعداءك وحيدًا، أمْ أن تقاطعَهم في وصفك جزءًا من مجموعة؟ حين تكونٌ ثمّة مقاطعةٌ متعاظمةٌ على مستوى العالم، وعلى الصعد كافّة، فإنّ "اجتهادَكَ" الشخصيّ (المخلص) سيؤثّر سلبًا في حركة المقاطعة العالميّة، فيتحوّلُ اختراقُك (المفترَض) لوعي عدوّك إلى اختراقٍ (فعليّ) للحركة العالميّة.
ـ من يستطيع أن يؤكّد أنّ إجراءَ مقابلةٍ مع وسيلة إعلاميّة إسرائيليّة اختراقٌ لوعي أعدائنا؟ هذا السؤال يزداد إلحاحًا حين نعْلم أنّ غالبيّة هذه الوسائل تنتمي إلى التيار الصهيونيّ "المتحجّر" السائد.
ـ كيف نقوّم تجربة الكتب العربيّة المترجمة إلى العبريّة، والمنشورةِ في دُور نشر إسرائيليّة؟ لقد أثبتت المبيعاتُ الهزيلة لهذه الكتب أنّ "المجتمع" الإسرائيليّ غيرُ راغبٍ في التعرّف إلى الإبداع العربيّ. تقول حانه عميت- كوخابي إنّ هذه الكتب لا تُعرضُ في مكانٍ بارزٍ داخل المكتبات الإسرائيليّة. وتردّ ذلك إلى أنّ الأدبَ العربيّ لا يُعتبر في نظر جمهور الإسرائيليين "مصدرَ اهتمامٍ ومتعة"، وإلى أنّ العربيّة لا تحظى "بالشعبيّة"، مضيفةً أنّ "الكثير من الناس يديرون ظهرَهم لمنطقة الشرق الأوسط التي يعيشون بين ظهرانيها؛ [فهم] يتحدّثون الإنجليزيّة الأمريكيّة ولا يعون مدى أهميّة معرفة اللغة التي ينطق بها خُمسُ سكّان الدولة من المواطنين في إسرائيل، وكذلك معظمُ سكّان المنطقة". وتختم بأنّ "المزاج العامّ في إسرائيل مشبَعٌ بالعنصريّة الصعبة [الصلبة؟] المناهضة للعرب، والتي تتجلّى في الحياة اليوميّة، وفي وسائل الإعلام، وفي كلّ منظومات حياتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمارِس التمييزَ ضدّ العرب. وحتى الأشخاص المفترض كونهم مستنيرين يَعتبرون العربيّةَ لغةً صعبةً... ولا يحاولون تعلّمَها، ولا يعرفون أكثرَ من اسمٍ واحدٍ أو اسمين لأديبٍ أو شاعر عربيّ، حتى حينما يكون [أولئك] الأشخاصُ يعملون في مجالات الأدب المختلفة".7
ـ هل التعبير، من خلال وسائل إعلامٍ إسرائيليّة، عن مواقفنا المعادية للاحتلال والعنصريّة، لصالحنا؟ في رأيي أنّ مجرّدَ التخاطب مع هذه الوسائل، أصهيونيّةً كانت أمْ "تقدميّة"، خدمة كبيرة لدولة الاحتلال. ذلك لأنّ المؤسسات الإسرائيليّة، وضمنها وسائلُ الإعلام طبعًا، تجْهد في إظهار "إسرائيل" دولةً عصريّة وديمقراطيّة. بل قد لا يمانع بعضُ الإعلام الإسرائيليّ في نشر آراءٍ تطالب بزوال إسرائيل نفسِها، لأنّ ذلك سيُبرز "سَعة" صدر الدولة بكلّ منتقديها، وثقتَها بنفسها وبقدرتها على الاستمرار.
ـ أعلى المظلوم أن يهجس باختراق وعيَ الظالم أصلًا، وأن "يفسّر" له ما فعله به طوالَ عقود؟ هذا الظالم، يا ناس، يقطن على بعد أمتارٍ منه، فلماذا لا يكلّفُ نفسَه عناءَ البحث عمّا ارتكبتْه دولتُه منذ 66 عامًا؟ أيحتاج إلى أن يقطع آلافَ الأميال ليلتقي لبنانيًّا أو فلسطينيًّا فيفهمَ منه ما حدث؟ ألم تبيّنْ تجربةُ عقدين من ورشات العمل عقمَ الحوار وكونَه محضَ "علاقاتٍ عامّةٍ" وسفرٍ وفنادق، على ما كتبتْ (في مجلة الآداب) د. إصلاح جادّ التي كانت واحدةً من المشارِكات في ورش عملٍ شبيهة ثم باتت من أهمّ ناشطات المقاطعة؟
***
أيّها الكرام
لن أرهقكم بنماذج التطبيع التي تخترق مجتمعَنا. ثمّة كتب تروّج للصهيونيّة في مكتبات جامعاتنا في لبنان، سوف تكشف حملتُنا عنها قريبًا. وثمّة مراسلون لقنواتٍ تلفزيونيّة، يوجّهون رسائلَ مباشرةً من القادة العسكريين الإسرائيليين إلى المقاومة والجيش اللبنانيّ. وهناك أمرٌ أخطرُ وأخبث، ولكنّه سوف يكون موضوعَ ندوةٍ أخرى، ألا وهو: دورُ بعض المؤسّسات المتصهينة في توريط فنّانينا ومثقفينا الوطنيين في مهرجاناتٍ وندواتٍ لا هدفَ لها سوى خلق تصدّعاتٍ إضافيّةٍ داخل المُناخ الوطنيّ المعارض.
شكرًا لاستضافتكم.
عاشت ذكرى التحرير.
النصرُ لفلسطين والمقاومة والمقاطعة.

*كلمة رئيس تحرير "الآداب" وعضو حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل"، في ندوةٍ أقامتها في مركز معروف سعد (صيدا)، في 23 أيّار 2014، المنظّماتُ الآتية: اتحادُ الشباب الديمقراطيّ ـ فرع صيدا، القطاعُ الطلّابيّ في التنظيم الشعبيّ الناصريّ، منظّمة الشبيبة الفلسطينيّة، شبيبة الحزب الديمقراطيّ الشعبيّ.


هوامش
[1] قُرئتْ هذه الورقة قبل يومين من زيارة البطريرك الراعي المشؤومة ومن مباركته عملاء جيش لحد، فاقتضى التنويه.

[2] http://www.al-akhbar.com/node/205825

[3] ثبت فيما بعد، وبالصور العديدة، أنّه كان في حراسة رجل شرطة إسرائيليّ، على الأقلّ في القدس المحتلة، باب الجديد.

[4] وقد التقاهم فعلًا، وباركهم، ونعتهم بأنّهم "لبنانُ الحقيقيّ"، ونفى عنهم تهمةَ العمالة والخيانة وتهديم مؤسّساتِ الدولة!

[5] http://www.pacbi.org/atemplate.php?id=50

[6] http://www.pacbi.org/atemplate.php?id=46

[7] http://www.vanleer.org.il/ar/content/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%86%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AF-%D8%AD%D8%A7%D9%86%D9%87-%D8%B9%D9%85%D9%8A%D8%AA-%D9%83%D9%88%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D9%8A