يحوط وعاء الأدب بصنوفه شتى براعم ثورة تنبجس من عذابات تستقي من دماء ملتهبة ومن أفئدة تتقلب على نار المعاناة لتتدفق عطاءاتها على قلق يلف الزمان، منعتقة من كل مقيدات، إذ عرف تاريخنا العربي والإسلامي القديم والمعاصر ثورات وطنية وإسلامية كثيرة ألهمت شعراء وسجلها أدباء ملتقية على أحقية طروحاتها، ودفع إذ ذاك مجاهدوها وناسها البسطاء دماءهم وبذلوا مهجهم لقاء حرية وخلاص أرادوهما غرضيْن يتساوقان مع كل وجود إنساني وُجد أو سيوجد على مساحة المعمورة.الكلام يجرنا طوعاً إلى ثورة إيران المعاصرة مع الإمام السيد الخميني (1902-1989) - الولي الذي يرى بعين الله على حد وصف الشيخ عبدالله العلايلي- هذا السيد العارف حمله المنفى بين تركيا والعراق وباريس قبل أن يحط في مطار طهران في 1شباط العام 1979،مُستقبلاً بحماسة مليونا إيراني في أول تجربة سياسية يقتحمها بجدارة رجل دين معلنًا نهاية النظام الشاهنشاهي، وقيام كيان سياسي ثوري عالمي سيكون امتحانه الأول ولن يكون الآخر كيفية تنظيم العلاقة بين الديني والسياسي وإبرازها بأصالة ومن دون مطبات وتشوهات.
عبّر عن سياقات انطلاقاتها - الثورة - الشيخ رفسنجاني بلغة أدبية اختصرت مسيرة نضالات شعب مؤكداً المدد الإلهي لثورة ستحكم دولة ونظام عقيدة وحياة، يقول الشيخ الرئيس هاشمي رفسنجاني: «الثورة الإسلامية في إيران تراكمت إشعاعاتها على مدى ست عشرة سنة خلف السحب، تبعث الدفء والحياة قبل أن تسفر فيبين الصبح.. وها هي بعد صناعتها لفجرها، ما زالت تتمرد على الاستيعاب.. ولذلك يستعصي الفجر على الامتلاك لأنه عصي على الإدراك. ولكنه وعد ينزله الله على من كان لوراثة الأرض» (كتاب «رفسنجاني حياتي»، تعريب الدكتورة دلال عباس، دار الساقي 2005).
الأدب والشعر هما سجلّا الشعوب يتزاحمان في التعبير عن عفوية حركاتها وآمالها، يتجمّلان بشواهد تقوم من بين ركام اللحظات معلنة عن فجر يرسم مسارات حياة تولد من جديد.
ولا ريب أن الأدب المقاوم من أهم غاياته أن يعري أدوات المستعمر، ويربي أبناءه على عدم الهروب من ثقافتهم الأصيلة وعدم التعيب بها، والانبهار أمام آداب الآخرين ومعارفهم إلى درجة التفاهة والانسحاق.
يعتصر الأدب الحروف ليصنع من الخصوصية الشعرية الذاتية أداة توظيفية وإعلامية تصور الواقع بدقه في سياق عام يمسّها هيَ ويتصل بوجدانها وتطلعاتها، فتنبري لتندك الروح الفردية في همّ جماعي واحد في مواقف ورؤى شمولية، ومَنْ غير الكلمات التي تتفجر عنفواناً قادرة على خطّ مشهدية تنقلك عبر الزمن إلى تحسس مشاعر مُلهمة أرادت وصلًا قطعته فروقات وعناوين عرقية وثقافية وتاريخية مصطنعة لا تقوى على مقارعة الحقيقة، فهذا الشاعر أدونيس في محفل الثورة يسجل صورة دقيقة عن لحظات منحت وجوداً جديراً بالحياة:
أفقٌ،
ثورةٌ،
والطغاةُ شَتات..
كيفَ أروي لإيرانَ حبي..
والذي في زفيري..
والذي في شهيقي..
تعجَزُ عن قولِهِ الكلمات..
شعبُ إيرانَ يكتبُ للشرقِ
فاتحةَ الممكنات..
شعبُ إيرانَ يكتبُ للغربِ
وجهُك يا غربُ مات..
شعبُ إيرانَ شرقٌ تأصلَّ في أرضنا ونبي..
إنه رفضُنا المؤسِسُ،
ميثاقُنا العربي.
وهذا نزار قباني يرقص يراعه بخفة راسمًا لعزة مشهد مُنتظَر، فلا معنى لدين وفكر بلا ثورة أصيلة:
زهّر اللوز في حدائق شيراز
وأنهى المعذبون الصياما
ها هم الفرس قد أطاحوا بكسرى
بعد قهر وزلزلوا الأصناما
شيعة... سنّة
جياعٌ...عطاشٌ
كسروا قيدهم وفكّوا اللجاما
شاه مصر يبكي على شاه إيران
فأسوان ملجأً لليتامى
والخميني يرفع الله سيفاً
ويغني النبي والإسلاما
هكذا تصبح الديانة خلقاً مستمراً
وثورة واقتحاماً.
استشرف باني الوعي الثوري علي شريعتي الكم الهائل من التحديات، فأكّد على وعي العامة في توليده لثورات حية أتت لتبقى مستمرة ومتجددة بوعي أبنائها لا تتوقف وتتجمد، فالوعي الثوري هو ثورة بذاته على الذات الجمعية التي لا تمتلك رؤية واستشرافاً للمستقبل وتنتشي فقط بانتصارات ظرفية، بل راهن شريعتي على شجاعة شعوب متحررة من خوفها وجهلها وضعفها منتصرة على انكساراتها تصنع تاريخها بجدارة.
فالثورة تقوم من أجل تعزيز الهوية الوطنية وتلاحم كل الفئات في استقلال فعلي تحميه كل قطاعات الشعب من عمال وفلاحين وحرفيين ومثقفين.
وتفور قريحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله شعراً في قصيدة طويلة في أجواء الثورة الإسلامية وعودة السيد الخميني نقطتع منها:
سيزول الطغيان إن عاشت الوح دة حقاً في ملتقى الآراءِ
خطوة خطوة .. ويرتفع الطو فان.. يا للهدير.. في الهيجاءِ
وتضج الدنيا.. من السيد القا دم من ذا.. في العمة السوداءِ
أي سر في روحه..في صفاء ال حق فيه .. يا للتقى.. والنقاءِ
كيف تخطو الحروف في شفتيه هادئات في روعة وصفاءِ
إنه سر عودة الروح في الإس لام.. سر انطلاقة الشرفاءِ
أن تبقى الثورة في نقائها، فذلك أمر مستصعب يتطلب جهاداً مفتوحاً حتى لا تتجمد عروقها وتتحول إلى نظام روتيني مؤسساتي وظيفي فمتى تكون من الناس ومعهم تشاركهم همومهم ستبقى هادرة وعروقها حية إنها مسؤولية كبيرة تستدعي حكمة ومحاسبة دائمة ومراجعة للأخطاء ومكامن الضعف وعدم الوقوع في فخ التباهي بالإنجازات، بل العمل والإخلاص والوعي والتكتيك والواقعية في بناء إنسان هو القطب والمحور من أجل حفظ تضحيات الشعوب وتاريخها والتركيز على بناء الأجيال وذهنيتها واحترامها لمكانة العقل والفكر بعيدا عن الغلو وربطها بأصالة أهداف الثورة الأولى حتى لا يحتوشها الاغتراب.
--
* أكاديمي وحوزوي
---