عندما زرته آخر مرّة عصر الخميس 15/2/2018، وفور مغادرتي منزله بعد جلسة عاصفة بالمحبّة والشعر، أهداني ما كتبه عنه الشاعر عمر شبلي، فكتبتُ:محمد علي شمس الدين الشاعر الذي لم يسعه صمته، ولا صوته، ولا حتى شعره، كلّما جلست إليه أدركت أنّه أكبر من جميع أحواله.
هذا الكبير النازل على الريح الصعبة يولد في كلّ يوم مئة مرة، وفي كلّ مرة ينتشر في أعمارنا ثم يعود تاركاً من روحه بصمة في أرواحنا، حيث نتعرّف إليها _أرواحنا_ من جديد كلّما تفجّر ينبوع من ينابيعه التي لا حدّ لها سوى روحه، وأحياناً، صمته الذي يفوق بلاغتنا المعهودة.
كم هو رحيم هذا الدم الأبيض الذي يتدفق في شرايينه الخضراء، حين ينزف من غموضٍ هو «سيد الكائنات، وسيدي»!
وكم هو حري بالشاعر أن يكتب غرقه مختاراً «البحر والمركب والرحلة» من دون أن ينشر راياته، «إلا بعد اختبارات عديدة مع الذات» المُلهِمة أو المُلهَمة حتى يتبيّن له الدم الأبيض من الدم الأسود في زمن ظلمات الفكر والشعر والفلسفة.
«الشعر جرح في الغيب» قالها لي يوماً محمد علي شمس الدين قبل أن تجتاحني عبقريته في الشعر وتأملاته في الوجود، فأنمو على أعياد موسيقاه.
فاجرح في غيبكَ وغيبنا يا سيدي؛ حتى تلتئم جراحاتنا أكثر، فأكثر.
والشعر الذي أفهم، أن تغرف من أقصى بُعد في النفس، في الحلم، في الصباحات المنتظِرة والمنتظَرة.
الشعر حلم الصحو، وصحو الحلم.
صرخات وآهات وندوب أبدية لا تتوب عن الحفر في الوعي واللاوعي وأنت تصنع التاريخ وليس تكتبه.
الشعر ثورة الدم على الأجساد البالية، وانتفاضة الروح على الأفكار العقيمة.
أيضاً، الشعر صلاة المهمشين والفقراء حيث لا غروب للشمس إلّا في شروقها، كالخلق المتجدّد بنفسه من نفسه في نفسه.
الشعر، أن تصنع الوقت الجميل الخلّاق مؤرِّخاً حتى نفسك. بجنونها، بجموحها، بعشقها، حتى يفنى الوقت ولا تفنى!
ولا عجب، لأنّ ما أعرفه عن محمد علي شمس الدين، أنّه صاحب «فطانة المعاني وفتنتها» في «علم نفس اللغة الشعرية». إنّه اللاوعي المُدرِك للأغصان الذهبية للشعر وللقصيدة، «المتأمل المذهول بأحواله ومقاماته» في «المرسى العرَضي والمرفأ الثابت». فهو فصاحة «الخدوش المهذِبة للشعر»، و«الطرائد عندما تكون نفسك في المرآة»، والغدير الخصب من الكائنات المتدفقة في حياة الشعر، وليس آخر مقاماته «كرسي الزبد الثابت»، ولا «الإيغال في الغربة حدّ عبور الذات». إنّه «المحاكاة للذات والأرواح اللطيفة». محمد علي شمس الدين النّد الدائم لذاته، وليس أي ند، إنّها «ندّية الذات حتى تخصيب اللغة»، كما في «شيرازيات المعنى تحاكي شمس تبريز وتتجاوز حافظ». هنا «المعاني المستولدة» من «الخيال الخلاق»، حتى تكون «اللغة الخضراء في مواسم الجدب»، وتستمر «الضاد كضمير متصل بالدهشة» جنوناً، وجنوباً، تبقى قيامة الشعر.
محمد على شمس الدين حضارة شعرية أكبر من معظم من عرفنا في لبنان، ولا نزال نتعرّف إليها أكثر. والدولة اللبنانية - صاحبة البذخ إلّا على كبار المبدعين-، ستبقى ساقطة حتى تحتفي بمبدعيها الذين يشرفوها ويرفعوها إلى مصاف الدول ذات الهوية الحضارية المبدعة. لكننا سنبقى نغرف من محمد علي شمس الدين فلسفة المعنى العميق في الرؤى، المعنى المنتفض على كلاسيكية القوالب المجمِّدة للوعي بالذات الخلّاقة، المعنى الثائر على كل مبنى ليس شاهداً على فلسطين في أمته.. وهنا، قل المعنى البعيد في المبنى الجليل المنفرد؛ لأنه لم يحضر محافل خيانة المثقفين وبقيت نصوصه ولغته عربية أصيلة مرتحلة بين الثقافة الضرورية المبدعة المرفوعة على الوعي الحضاري وبين الواقع المغمس بالتضحية والمقاومة حتى لو كان الثمن أغلى ما يملك. تلك التضحية التي تحدث عنها المفكر الفرنسي جوليان بيندا في كتابه «خيانة المثقفين»، وتتجلى الآن بالقطيعة التاريخية والأخلاقية التي نراها مع كثير من مثقفي العرب في الهرولة نحو التطبيع ومآلاته السياسية والثقافية، تماماً كالذي حدث بين المثقف والواقع السياسي في الغرب عندما باع المثقف ضميره وشعره وأدبه وقلمه وحسه الوطني مقابل الشهرة والمال والتقرب من البلاط الحاكم بعد الحرب العالمية الأولى.. لكن يبقى المثقف أو المفكر الحقيقي هو المفكر المسؤول القادر على التضحية حتى لو اضطر لشنق نفسه على مقصلة الحقيقة، حسب النموذج السقراطي. ويكفي محمد علي شمس الدين أنه أدرك ذلك وتمسك به منذ نشأته، ليكون المفكر والشاعر الذي لم يضحِ بالحقيقة من أجل المصلحة مهما تعالت وعظمت، وهنا، حريّ بنا أن نقدم له الشكر لأنّنا عِشنا في زمنه قبل نَسَبِنا.