يعلو صوتُ الثقافة ويرتفع في نهاية المطاف، مطاف الأزمات، مطاف الأحداث، مطاف السيرورة والصيرورة الحتميّة. ثمة صوتٌ واحدٌ ينبتُ ويظلُّ بارزاً في حلقة التاريخ، تاريخ الفكر الإنساني، حتى تنتصرَ كلُّ حضارةٍ لشعبِها وكلُّ شعبٍ لحضارتِه. الحضارات لا تموت، لأنها تتأسّسُ فوق بنيانِ الفكر والعلم والفنّ والثقافة. هي لا تقوم على السلطة أو الرغبات، وإنما على إرادة الحرية والتحرر من الاستعباد بكل أشكاله، بكل الوسائل، ريشةً وقلمًا ووترًا وخيطًا ولونًا.. ولأنّ الثقافةَ تتغذّى على الانفتاحِ ولا ترتوي، وتربو على التبادل ولا تستكينُ حاجتُها، نحتفي بها اليوم، صلةَ وصلٍ جمعتنا منذ القدم، فالتقينا على الحبّ، والتقينا على الودّ والتعاطف والتسامح وتوثيق العُرى، والتقينا على صنعةِ الفنّ، والتقينا على مقاومة القبح وكل معاني الشرّ من خلال مخزوننا الثقافي والفني إلى جانب سلاحنا الفكري.
أيام الفجر الثقافية الإيرانية ليست حدثاً سنويّاً ربما مثل سائر المناسبات، ولكنها حدثٌ دائمٌ يحتفى به في أي وقتٍ من السنة، فهي ذريعةٌ للّقاء والحوار والعطاء والتبادل. ذريعةٌ لنشر المحبة والتقبّل بين الشعوب. وهي ذريعةٌ أخرى للمقاومة. اليوم احتضنت بيروت هذا الحدث، وهدهدت عروسُ الشرقِ طفلَ الثقافةِ في مهده الأبيض، في متوسّطِ التحديات.
افتُتحَت الفعاليات مع أوركسترا رودكي الوطنية الإيرانية، وللحظاتٍ وجدنا قطعةٌ من الفردوس تعتلي مسرح رسالات فوق أكفّ المبدعين، لترسمَ أناملُهم ملامحَ الوجدِ الفارسي والمعنى الكلّي بمشاركةٍ عربية لبنانية. جدلية التأثّر والتأثير، تجلّت على خشبة المسرح هنا، ولم تكن الكراسي الخشبية المصفوفة على شكلٍ دائريٍّ لأعضاء الفرقة وحدها علامةَ التلاقي والتبادل، وإنما الحضور الذي كان من إيران ولبنان ودولٍ أخرى؛ من كل حدبٍ وصوب، جاء عشاق الفنّ والموسيقى ملبّين دعوةَ فطرتهم التي جذبتهم إلى حيث العرض الموسيقيّ الزاخر بالجمالِ والجلال، بقيادة المايسترو الشغوف برديا كيارَس، الذي كان يرفعُنا إلى السماء كلما رفعَ عصاه مشيرًا للفرقة، ثم ما يلبث أن يعيدَنا إلى الأرض كلما أعادها. لكنّ طوفانًا من الجنون الجميل كان يلفّ الحضور كلما ازداد كيارس حماسةً وازدادت حركاتُ جسده استنفارًا مع تراقص النغم صعودًا وهبوطًا.
وربما لأن الموسيقى تتسم بالعالمية، فإنّ اختيار المواضيع الإنسانية العالية يجعلها أكثر رقيًّا. فقد زاد من إثارة الجمهور وحماسه اختيار المعزوفات التي تمحورت حول مفاهيم الوطن والتعاطف مع بيروت إثر انفجار المرفأ؛ المقطوعة التي تولى قيادة أدائها المايسترو اللبناني أندريه الحاج في الأمسية الثانية في قصر الأونيسكو. وهناك تجلّى انتصار الفنّ والجمال على كلّ شيءٍ مرةً أخرى، مع اعتلاء التينور الموسيقي غابرييل عبد النور المسرح لمشاركة نظيره الإيراني أشكان كمانكري أداء نشيد «إيران يا حدود الأصالة». فاجأ عبد النور الحضور بأدائه المميز للنشيد بالفارسية، وانصهرَت الحنجرتانِ وغرّدتا حتى اهتزّ الفضاءُ بألحان السلام والمحبة.
وصلنا إلى الليلة الثالثة، أمسية الشعر والفنّ والجمال الموسيقي في ليالي المبعث النبوي الشريف. نكهةٌ مختلفة هذه المرة مع تواشيح أضفت إلى جانب التفاصيل التي رسمت المكان، جوّا من صفاء الروح والمعاني الباطنية العميقة. وحصل التواشجُ من جديد بين شاعرين من إيران ولبنان، ثم بين عزفِ أنغامٍ فارسيةٍ ونشيد "طلع البدر علينا"، فكأنما البدرُ كان يرقص حبوراً في تلك الليلة الروحانية بامتياز.
ولأنّ الجمال لا تنفصلُ عُراهُ عن بعضها البعض، فقد تزامنت الليالي الثقافية باحتفالياتها المختلفة مع معرضٍ مستمرّ للفنون الحرفية والبصرية لنخبةٍ من الفنانين الإيرانيين في صالات رسالات. هناك، يأخذك كلّ قسمٍ أو جناحٍ إلى حيث ثقافة الفنان وانتماؤه القومي. فالسيدة الفنانة هنا تجذبك إلى القرى الإيرانية بجمال خيوطها التي طرزت بها المفارش المتنوعة والزاهية، حتى يخيّل إليك أنك دخلتَ عدةَ بيوتٍ في لحظةٍ واحدة، ووجدتها جميعًا على قدرٍ من الدفءِ والحنين الذي تألفه عيناك، وقلبك! أما السيدة التي ترتدي زيّها التقليدي وتعرض أواني النحاس المزخرف بحجر الفيروز والنقوش الفارسية القديمة، فتحملكَ إلى التراث العتيق، إلى مكانٍ لم تعرفه من قبل، وتحطّ بكَ أناملها الدقيقة في أرض نيشابور وأصفهان وربما طوس لتخرجَ عارمًا صدرُكَ بالهيبةِ والجلال.
تمضي قدُماً إلى الداخل، فتخطفُ بصرَكَ المصاحفُ المزينة بالنقوش والتذهيب، ثم اللوحات التي صنعَها الفنان بقطعٍ خشبيةٍ صغيرةٍ جداً استغرق إنجازها شهوراً.
عوالمُ مختلفة ومتنوّعة تدخلها هناك، كأنما وضعتَ قدميكَ في كتابٍ للقصص والأساطير، روحٌ متفاوتة. لعلّها روح الثقافات الأخرى، التي تجذبنا لأنها تلتقي مع ثقافتنا عند نقطة الجمال والعظمة.