بين الوهم والحقيقة، خيط رفيع لا يمكن رؤيته بوضوح. ولكن ما كتبه أمين الزاوي قطع الخط الفاصل بمقال «عندما يصاب المثقف بعقدة قابيل» (نشر على موقع «أندبندت عربية» يوم 24 شباط/ فبراير 2022) بحيث لم يدع مجالا للشك أنه يتهم الوسط الثقافي الجزائري بالتعفن وأن الكاتب أو المثقف عموماً مصاص دماء ومصاب بعقدة مرضية كعقدة قابيل في محاولة للغدر بأخيه الكاتب بغية الاستيلاء على سلطة وهمية يراها، سواء كانت رمزية أو سياسية. وقد شبّهه بالفارس القروسطي الذي يرى نفسه دونكيشوط آخر يهذي ويتحرك. وأوافق أمين الزاوي على ما جاء به في المقال في بعض النقاط في ما يتعلق بالأمراض النفسية والسيكولوجية التي تعصف بالوسط الثقافي من غيرة وحسد وكراهية اتجاه الآخر، لكن هذا الأمر يشمل جميع بلدان العالم وهي خاصية بشرية لا يمكن التخلص منها للأسف. فالكاتب إنسان قبل ذلك قد يصيب ويخطئ، إلا أن الفارق هو أنه يتوجه للعمل والاشتغال على الذات ونقدها باستمرار، لا على توجيه التهم والكيل بمكيالين للآخر ولو عن طريق الكلمة. كما لا يمكن للباش كاتب أن يقدم الأحسن إن ظل محصوراً برهاب المثقف متوهماً أنه ضحية وسط أدبي متعفن لا يرى فيه غير نفسه. على الكاتب أن يتخلى عن نرجسيته أحياناً حتى يتمكن استقراء واقعه بشكل صحيح، لا كما توحي له به خيالاته وشطحاته الفكرية، متجنباً الوقوع في فخ الكراهية والانتقام من الآخر بحجة النقد. إن التعميم الذي سقط فيه الدكتور أمين الزاوي لم يكن صحيحاً البتة، حقيقة لا يوجد مجتمع أدبي في الجزائر، وهذا راجع إلى غياب البنيات القاعدية التي تغذي الثقافة وترعاها كمؤسسات نشر وتوزيع ومكتبات ومعارض... ولكن لا يجب أن ننسى أن هناك حركة أدبية وفكرية وإن فردية ومحتشمة وأغلبها لا يتصل بالمؤسسة الرسمية. إلا أنها بدأت تفرض نفسها على الساحة الثقافية الوطنية والعالمية بلا حسابات أو دعم سلطوي، وبلا ميول إيديولوجية وتعلن عن مواقفها بصراحة سواء في مؤلفاتها أو على مواقع التواصل الاجتماعي. وليس لها طموح سياسي أو سلطوي، كما أن العلاقة بين الأدباء لم تكن دائماً مشحونة بالكراهية والحسد والبغض كما صورها الدكتور أمين الزاوي في مقاله. فهناك أمثلة عديدة على علاقات صداقة متينة نشأت بين أدباء ومثقفين في الجزائر وغيرها من العالم العربي.لا يمكن للمثقف في زمن ما بعد الحداثة أن يلعب دور الرسول ولو أراد ذلك، وإن توفرت له السبل. لأن الإمكانيات التي بات يمتلكها الأفراد جعلتهم مؤثرين، أكثر من المثقف أو الكاتب، الذي جعل من نفسه صنماً وغدا بذلك معرضاً للنسيان والإهمال، فهو لم يعد يقدم خيارات ولا رؤى جديدة، مكتفياً بترديد شعارات بالية. فإذا ما حقق نجاحاً، ما فلا يمكن لذلك أن يجعله منقذاً أو قائداً، كما لا يمكنه التعتيم على كاتب يفوقه إبداعاً وفهماً، لأن زمن السُلمِ الوحيد كما وصفه في مقاله قد ولى. هناك قنوات تلفزيونية ووسائل تواصل أتاحتها التكنولوجيا ساعدت على التعبير والإبداع الحر ولم يعد للقناة الوطنية الوحيدة الرسمية من سلطة على المشاهد الجزائري وسط تعدد العوالم وتفرعها. أرى أن وصف أمين الزاوي للكاتب الجزائري بحانوتي القرية أو بديك المزبلة العمومية الفريد، قاس مليء بالغضب والكره، وأغلب الظن أنه يشير إلى المثقف الماركسي من زمن الثمانينات الذي مارس سلطته بتولي مناصب في مؤسسات تابعة للدولة، ومارس الإقصاء والتنكيل بالآخرين من خلالها. ولكن المحزن أن هذه العقلية قد ترسبت إلى الحاضر مع بعض التعديلات الطفيفة في الأفكار والرؤى التي تجاري موضة الفيمينيست والاشتغال على الثنائيات العقيمة من الجدل بين الامازيغية والعربية أو العربية والفرنسية، أو الدين والسلطة. هناك وهم الرؤية وهو لا يقل خطراً عن الامراض الأخرى التي وصفها في مقاله والتي يمكن أن تصيب حتى المثقف صاحب النية الحسنة. وهو بذلك يقدم صورة خاطئة عن الآخر، وتبعده عن الواقع أكثر ليجد نفسه بمعزل عن الحركة الادبية إن كان هناك أدباء غيره يكتبون.