ما زالت رواية غيوم ميسو الجديدة «مجهولة نهر السين» (كالمان ليفي) تُحطم أرقام المبيعات في فرنسا. المُلاحظ أن جميع روايات هذا الكاتب حقّقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وقد تمّت ترجمتها إلى العديد من اللغات ومنها العربية، كما أنّ بعضها تحوّل إلى أفلام. تنتمي روايات ميسو إلى فئة البست السيلر (best seller). روايات ــ كما يوحي اسمها ـــ موجَّهة إلى الجمهور الواسع أي للاستهلاك الشعبي، وهي تختلف عن الروايات المعترف بها من قبل المؤسسات الأدبية الرسمية كالأكاديمية الفرنسية والدور الشهيرة. من المفيد أن نذكر هنا رأي عالم الاجتماع الشهير بيار بورديو الذي عبَّر عنه في كتاب «قواعد الفن» حين اعتبر أنّ الحقل الأدبي اتّجه لينتظم منذ بداية القرن العشرين وفقاً لمبدأين مستقلّين ومتراتبين: حقل الإنتاج الأدبي الكبير وحقل الإنتاج الأدبي المحدود. يسعى المنتمون إلى الحقل الأول إلى الحصول على الرأسمال الاقتصادي أي الربح المادي، ولا يهتمون بالاعتراف بأهمية أعمالهم الأدبية من قِبَل النُّقّاد وبقية الأدباء المعروفين. كما لا يعيرون أهمية للقيمة الأسلوبية والبلاغية للرواية. المهم فعلاً بالنسبة إلى هؤلاء إشباع حاجة الجمهور من خلال كتابة قصة مبنيّة جيداً ومسليّة. أما الفاعلون في الحقل الأدبي المحدود، فيطمحون لاكتساب الرأسمال الرمزي والتقدير من قِبل المنتجين الثقافيين، ولابتداع أساليب روائية ولغوية جديدة. كذلك، هم يترفّعون عن الاهتمام بالرأسمال الاقتصادي. يؤكد بورديو أن هناك علاقة تناسبية عكسية بين الجودة الأدبية والمكاسب المالية، إذ تميل القيمة الأدبية للعمل بالانخفاض مع ارتفاع حجم المبيعات. نتيجة لذلك، سيتعرّض العمل الأكثر انتشاراً لحكم سلبي للغاية من المتخصّصين في الأدب والفن.تُعتبر روايات ميسو من المؤلفات الأكثر رواجاً، أي أنها تنتمي إلى حقل الإنتاج الكبير. هذا الكاتب يبيع كل عام مئات الآلاف من النسخ في فرنسا وحدها، وقد باع منذ بداياته إلى الآن ملايين الكتب حول العالم. يتميز هذا النوع الأدبي الترفيهي باختيار حبكة سهلة الفهم غير معقّدة وشخصيات نمطية يمكن أن يتماهى معها القارئ بسهولة. تَتَّبِعُ هذه الروايات بمعظمها وصفة جاهزة يُطبِّقها الكاتب على جميع كتبه بدءاً من كيفية انتقاء صورة الغلاف الخارجي واختيار عنوان جذّاب للرواية وطباعة اسم الكاتب بأحرف لافتة وانتهاءً بتصميم الغلاف الأخير. أما بالنسبة إلى عدد الصفحات فيكون مدروساً لا يتجاوز عادة الـ 400، مع تفضيل الفصول القصيرة لأنَّ الإحصاءات أظهرت أن الجمهور يسأم الروايات الطويلة. تحوّل اسم ميسو في السنوات الأخيرة إلى ماركة مسجّلة تجذب القراء ولا عجب بأن نسمعهم يتكلمون عن روايته الأخيرة كما لو أنهم يتحدثون عن أحدث صَيْحة من جهاز آيفون. يقوم أصحاب دور النشر التي يتعامل معها ميسو بكل ما يجب لتحقيق النجاح الجماهيري المطلوب من خلال نشر صور جذّابة للكاتب ودراسة «اللوك» المناسب له وحركات الجسد وتنظيم المقابلات الصحافية. هناك إذاً صورة معيّنة عن ذات الكاتب (éthos de l’écrivain) يتم العمل على بنائها بجهد لتسويق العمل الأدبي.
يقضي ميسو وقتاً طويلاً في بناء الحبكة الروائية التي يشهد له الجميع بأنها مليئة بالتشويق والإثارة وقادرة على إبهار القارى وإبقائه متلهّفاً حتى النهاية حتى لو لم يكن من هواة الأدب. كما أن الكاتب يستعين بأسلوب سينمائي لسرد الأحداث المتصاعدة، فنشعر بأننا نشاهد فيلم أكشن من أفلام هوليوود. في «مجهولة نهر السين» مثلاً، ينجح في الاستحواذ على انتباه القارئ من خلال الحبكة البوليسية المُحكمة والمُطعَّمة بعناصر ميثولوجية. تدور أحداث هذه الرواية حول امرأة شابة يتم انتشالها حيَّة من نهر السين ويتم نقلها إلى مستوصف في مقر شرطة باريس، لكنها تهرب بعد ساعات. تُظهر تحليلات الحمض النووي والصور هوية الفتاة التي يتبين أنها عازفة البيانو الشهيرة ميلينا بيرغمان. لكنّ ميلينا سبق أن تُوفّيت في حادث تحطم طائرة منذ أكثر من عام. وهنا يُصمِّم خطيبها السابق رافاييل والشرطية روكسان على حل هذا اللغز.
من ناحية الشخصيات، يميل ميسو إلى شخصيات غير مُركَّبة وقريبة من واقع القراء كي يشعروا بالانصهار العاطفي معها. تكون الشخصية النسائية الرئيسية غير حقيقية في الغالب، فنجد مثلاً شخصية امرأة عادت من الموت أو ملاك هبط إلى الأرض لمساعدة البشر (رواية «أنقذني») أو شخصية حبرية خرجت من كتاب («فتاة من ورق» و«الحياة رواية»). عند التعرف إلى هذه الشخصية، يكون البطل دوماً في حالة من الضعف الجسدي أو المعنوي بسبب استهلاك الأدوية والكحول أو بسبب التعب الشديد. أما الشخصيات الذكورية فعادة ما تحمل اسماً قصيراً يذكرنا بالمجتمع الأميركي كطوم، وسام... وغالباً ما يشغل الأبطال وظائف مرموقة كطبيب أو كاتب مشهور أو محامٍ لامع. مع ذلك، لا يتردد المؤلف في منحهم طفولة فقيرة وماضياً مليئاً بالذكريات المؤلمة للإيحاء بأن الثروة والسلطة لا تكفيان لتحقيق السعادة.
معظم الأحيان، يقوم راوٍ عليم بسرد الأحداث. وهذا يخوّله بأن يعطي معلومات غنيّة عن ذهنيات الشخصيات و أحاسيسها ودواخلها. يتم سرد ماضي الشخصيات الرئيسية عادة بهدف فهم أسباب حزنها وكآبتها واستيعاب تطورها منذ الصغر حتى مرحلة النضوج. تقع أحداث القصص دائماً في الزمن المعاصر. لذلك تكثر المراجع الزمنية التي يعرفها القراء جيداً. في «فتاة من ورق» مثلاً، تتكرر الإيماءات إلى الأوضاع الراهنة كذكر اسم الرئيس الأميركي أو الكلام عن أحداث سياسية وثقافية معروفة. هذا التقارب بين زمن الشخصيات وزمن القارئ يمنحه إحساساً بالواقعية ويُسهّل عليه عملية القراءة.
يتعمَّد ميسو بناء أماكن روائية مألوفة للقارئ كي لا يشعر بالاغتراب. تقع الأحداث بشكل أساسي في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، ولكن أيضاً في نيويورك، بوسطن، باريس، روما... يقدم ميسو عن هذه الأماكن صورة نمطية على غرار تلك التي نجدها في المنشورات السياحية. فتبدو هذه المدن كأنها كليشيهات أكثر منها حقيقية، تشبه ما يتخيله القارئ عنها من خلال متابعته للمسلسلات والأفلام. يرسم الكاتب للولايات المتحدة صورة كاريكاتورية تميل إلى الطوباوية، فمعظم الأميركيين في رواياته مرتاحون مادياً يمتلكون منازل مطلةً على الشاطئ ويقودون سيارات فارهة، فلا عجب إذاً بأن يتوهم القارئ بأنها أرض الفُرص الواعدة والأحلام الذهبية.
يلجأ ميسو أيضاً، من باب إضفاء المزيد من الواقعية على رواياته، إلى ذكر العديد من العلامات التجارية الأميركية مثل «بوغاتي»، «كرايسلر»، «ستاربكس»... هذا يدفعنا للاعتقاد بأن بعض الشركات ربّما تدفع ثمناً باهظاً ليتم الاستشهاد بمنتجاتها في العمل الأدبي، كما هي الحال في الإنتاج التلفزيوني أو السينمائي. في جميع الأحوال يستطيع القارئ بسهولة أن يتعرف إلى هذه العلامات المستخدمة في حياته اليومية، فيزداد شعوره بأن أحداث الرواية حقيقية ومعاصرة.
يمزج غيوم ميسو الفانتازيا والخيال والأحداث الخارقة دوماً في رواياته، لمعالجة مواضيع حسّاسة كموت شخص قريب، ومرور الزمن، وإمكانية تغيير القدر والحصول على فرصة ثانية في الحياة. يبرع في دمج جرعات مذهلة من الواقع والخيال في آنٍ بهدف تقديم مشهد مغاير لقرائه ومنحهم الأمل بعالم أفضل. من خلال مقارنة الدنيا الخياليّة مع الواقع المادي، يتعرف القارئ إلى فضائل وقِيَم مقدّسة يفتقر إليها العالم الرأسمالي المتوحّش الذي نعيش فيه اليوم كأهمية الحب والتسامح والصداقة والعائلة. هذا اللجوء إلى الفانتازيا أو الأحداث العجائبية يروق للقارئ الذي تستهويه فكرة وجود شخصيات تعيش في عالم مواز، قد تظهر فجأة في العالم الواقعي كي تُغيِّر حياته للأحسن. في رواية «هل ستكون هنا؟»، تستطيع الشخصية الرئيسية «الدكتور إليوت» السفر عبر الزمن بفضل حبوب غريبة أهداه إياها أحد المرضى الذين عالجهم في غابات كمبوديا. ويستخدم اليوت هذه الأقراص للعودة ثلاثين عاماً إلى الوراء لتغيير الماضي وإصلاح خطئه تجاه حبيبته إلينا التي ماتت في حادث مؤسف.
تتضمن الحبكة دائماً عند ميسو قصة عاطفية تواجه عوائق اجتماعية أو مادية عديدة. وفي الأغلب أنها تحطّمت نتيجة حادث مأساويّ أو فترت نتيجة مرور السنين. في إحدى أفضل رواياته «غداً»، يحكي لنا ميسو قصة إيما الفتاة التي بلغت الثانية والثلاثين وتبحث عن رجل حياتها، فتتعرف عبر الإنترنت إلى ماثيو الأستاذ الجامعي الأرمل الذي فقد زوجته في حادث مروع ويقوم بتربية ابنته وحده. يتفق البطلان على اللقاء في مانهاتن. في ذات اليوم وذات الوقت، يذهب الاثنان إلى المطعم ويقودهما النادل إلى ذات الطاولة، ومع ذلك لا يلتقيان أبداً. السبب في ذلك أنهما يعيشان في خطين زمنين مختلفين. من هنا تبدأ أحداث مشوقة ومفاجآت غير متوقعة، خاصة عندما يحاول ماثيو استغلال الفجوة الزمنية لإنقاذ زوجته من الموت. إيما تشعر بالغيرة لأنها مغرمة به، لكنها تحاول مساعدته فيما تكتشف أموراً خطيرة عن زوجته السابقة كايت.
رغم الانتقادات العديدة التي وُجِّهت إلى أعماله بصفتها تجارية وخفيفة لا تحمل أبعاداً فلسفية إنسانية عميقة، أثبت غيّوم ميسو أنه يمتلك مفتاح النجاح من خلال توليفة مميزة تعتمد على الإثارة البوليسية والحَبْكة المُتقنة والفانتازيا والأسلوب السينمائي المشوّق، بالإضافة إلى قصص الحب التي ينسجها بين الشخصيات الرئيسية. لا شك في أنها «تتبيلة سحرية» سمحت له ببيع ملايين النسخ من مؤلفاته حول العالم وحوّلته إلى أحد أغنى الكتّاب في فرنسا.