عطالله السليم في كتابه «الحبّ في بيروت Online Offline» (دار نلسن ــ 2022) يبحر في الطريف والظريف، فكتابه طريف من نوعه وظريف في محتواه. ومع طرافته وظرافته، لا يهمل همّ بيروت الوجودي. يقرّ في مقدمته أنها مدينة تتخبّط في أزمة هُوية عميقة، ولا يغفل بالتالي العلاقة المأزومة أصلاً بين الرجل والمرأة.الكتاب إذاً عن الحبّ، ليس إلا، الحبّ في بيروت عبر الديجيتال، فكيف يكون عاطفة في مدينة معطوبة عبر سلك سريع ورقيق وخالٍ من شحنة دفء وحنان، فيما يعيش أهلها على موجات من القلق والإحباط. ها هي الأحلام تتكسّر عبر النقر على الـ Waw و Love فأصبح الغرام مقياسه الأونلاين وذبذباته المتقلّبة. وبين هذه وتلك قصة حب غريبة، صمدت في فشلها قرابة تسعة أعوام. كل ما في القصة حقيقي باستثناء اسم الفتاة (حنين) وعليه فهي من صلب الواقع، لكنه واقع لا تنفع معه أحلامنا الكبرى!
وجد في حنين ضالّته، فبدأت قصّته العاطفية معها قبل هبوب نسائم الربيع العربي، وتحديداً في صيف 2010 وقت تخرّجهما من الجامعة، فنمت علاقتهما على صفحات الفيسبوك. كانت بيروت تعجّ بالفوضى حين فاجأته حنين برسالة غرام ثم سكتت وغابت لثلاث سنوات، وفجأة طيّرت إليه رسالة ثم طار عقله فلم يعد يحبّها فحسب. صار يعشقها. ثم غابت وظهرت له من جديد بعد عامين. إلا أن عطالله يعي تماماً أنه من مدينة تعشق توليد الإحباط بتنوّعاته.
ينتبه عطالله إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي تحتاج إلى مقرّر جامعي ليتمّ تدريسها، إذ يدرك أن أنواع الـ emojis تعبّر عن حالات العاطفة الزائدة والحب الشديد، فهناك قلبان في العينين وهناك وجه مرتسم على شفتيه قبلة وهناك قلب أحمر، فالسرعة الجنونية لطيران رسائل الواتساب، تحيل الأيام إلى هوس عاطفي، ما يستدعي طلب مواعيد لدى عيادات جوّالة متخصّصة في الاستشارات العاطفية، أي الغرق في غرام بائس لا منقذ منه.
في صيف 2015، تعود حنين إلى معترك الصراع على صفحات الفيسبوك، فتطيّر إليه رسالة تطمئن فيها عليه إثر انخراطه في حراك بيروت الثوري، فقال في نفسه فُرِجت، إذ اشتهى حنين والثورة والعثور على عمل طالما أنه كان عاطلاً عنه. ثم غابت عنه لسنتين وبقي يحنّ إليها رغم جفائها له. إنه الحبّ الجيو – استراتيجي حسب تعريف عطالله له، ففيه مطبّات وأحياناً متاريس وخنادق، ورغم ذلك، ويا سبحان الله، فالعاشق يحب التباهي ويغرّر بصحبه على الفيسبوك، وتحقّقت أحلامه حين عادت حنين تظهر عليه في أماكن السهر التي يرتادها، فتأتي بصحبة شاب جديد كل أسبوع فأدرك أن تنويع الخيارات العاطفية هو مطلبها، لا غيره.
إلى أن كان اللقاء التاريخي في 3 حزيران (يونيو) من عام 2017 في مقهى «توت بيروت» في شارع المقدسي. دام اللقاء ثلاث ساعات ونصف ساعة، طالبت فيه حنين بأن يصبحا صديقين ليس إلّا وبدون أي ارتباط عاطفي. وإثر هذه القمة الروحية قرّر عطالله العزوف عن حنين.
يدرك عطالله حينذاك أن بيروت تنتج علاقات عاطفية مشوّهة، ولا عجب، فالمدينة أصلاً لم تتصالح لا مع تاريخها ولا مع جغرافيتها، ومن هنا اللجوء إلى صخب العيش، إذ يراه عطالله «ميكانيزم» دفاعياً في وجه الإحباط الحاصل أصلاً في بنيان المدينة النفساني.
مع الوقت انتهت علاقته بحنين وعليه ينهي كتابه بنصائح استمدّ جوهرها من فهمه للصراع الناشب في قلوب العاشقين بين قطبَي المثالية والمادية، فيطلب من قارئه الولهان التمهّل والصبر في الاعتراف بحبّه واللجوء إلى تخزين رسائل في هاتفه يرسلها متى كان الوقت مناسباً.
فعلاً نجا عطالله من محاولات عدة لاغتياله عاطفياً، فها هو عزف عن رسائل الفيسبوك في الصباح، إذ خصّصه لقراءة الصحف والاهتمام بشأنه الخاص، فقد وعى أن العلاقات في مدينة مأزومة لا بدّ من أن تكون مأزومة على شاكلتها وفق تحليله الهيغيلي هو المتشرّب من مناهل موسكو الفكرية.
كتاب طريف وظريف لعطالله السليم في أسلوب مرن، ولكن مشبع بالسخرية المطلوبة لهذا الواقع المرير ولعلّه أحد وارثي إميل حبيبي ومارون عبّود في آن.
* كاتب فلسطيني