الماضي ليس شجرة خريف. هكذا يبدو الأمر في رواية سوسن شوربا قدوح «الحب لحظات» (دار الفرات ـــ الغلاف من الفنان محمد الرواس). هكذا، تحمل قلقها وهواجسها من الشارع العريض إلى الصفحات الباردة. ذخيرة الحياة في الرواية، طعنات الزمن، أحلام تحولت إلى حجارة. لا بأس، ما دامت تستطيع أن تحرك يديها، ترفعها لتنادي على ما تريد أن تناديه، بدون تعجّل، وهي تتأكد من أنّ الجسد ذخيرة، الروح ذخيرة، أجنحة الجسد الخفيّة ذخيرة. لكنّ أبجدية شوربا واد مليء بالرمان. ولأنه كذلك، تتحرر كثيراً من صرامة كتابة الرواية، لتُعير نفسها ما تحتاجه النفس من أنياب الفنون الأخرى، لتميل عليها في كتابة رواية لا تتعثّر بشيء وهي تمضي على مدى صفحاتها الأربعمئة. لا كسيف يضرب في الماء، كشجرة ميلاد عارية تغطي أغصانها بقذف النار على نفسها وعلى الآخرين، لتؤكد أنها ذات أغصان عالية، قبل أن ترفع ملاك الشجرة على رأس الشجرة. كأنها تكتب، حتى لا تفقد وجهها في الزحمة. الأرجح أنها ليست سيرة ذاتية. الأرجح أن جزءاً من سيرتها الذاتية تطير في الرواية كأحلام الثلج وهي ترمي أفكارها المشمسة. غير أنّ أحداً لن يدرك، سوى لصوص القراءة، ما هو الذاتي وما هو اللاذاتي في رواية لا تنام بين الأيدي كالهررة. وسوف تسهر مع القرّاء كما لو أنها جدة عجوز تروي واحدة من رواياتها عليهم.«الحب لحظات» لا تروي سير اللحى الفاسدة. إنها زورق يطفو فوق حكاية حب مستحيلة لأنها من طرف واحد (تعدد الرجال في الرواية تأكيد على أن ثمة رجلاً مفقوداً، وهي ترصده بكل ما يعبر أرض العلاقات). رومانسية المرأة وواقعية الرجل. امرأة تحلم بحب ناصع كالثلج ورجل لن يطعمها ثمار لهفتها إليه. لقد شقّ موقعه في رأسها، وهو بذلك وضع قدميه على طريق الكنز. لأنّ المرأة شرشف من الحواس والمهن والإرشاد والهبوط في حياة الآخرين لأجل مساعدتهم. سيدة ناصعة كما هن سيدات «بايتون بلايس»، المسلسل الأميركي الشهير. سيدة مشهورة، أنيقة، موهوبة، باذخة، لم يرها حبل الغسيل ولم تره. الكوليك. لا تعرف متى تتفتح أزهارها ومتى تذبل، سوى حين تقصد ضريح قريبة لها، لترتمي عليه أو لتجلس القرفصاء أمامه وهي تطعمه كلامها، في انتظار يد تسحبها من ضخ الرأس عند الصباح. لقد استطال الشتاء تحت جلدها وفوق ثيابها مذ توفي زوجها وترك لها ما تركه من ثروات. لن يتجمع في عينيها سوى يم حبيبها، خالق الأشكال: اياد. لن يتجمع سواه في الزوايا والردهات وكل المساحات الأخرى. يركنها ككتاب في مكتبة. وهو لن يتهالك عليها كما تتهالك عليه. تلك عقدة المرأة، تلك عقدة الرواية وهي تدور في ميناء جرائم الرجل المزروعة كالخناجر في ظهرها وصدرها وفؤادها. حين يبتعد، تجمد عيناها كعيون الموتى. وحين يقترب تحضر الظلال الصديقة، تخترق التراب والأرض إلى أعلى سماء، حيث تتفجر كما تتفجر رصاصة ولكن بحركة الريش.
تمتص سوسن شوربا قدوح كل ما تحتاجه مما هو موجود في صندوق الرواية العربية والأجنبية لتحرك يدها في الخفاء كعنكبوت، لتغزل عزلاتها الكثيرة كنعش اليوم. ذلك أن لقاءاتها ايناعها في وديان الموت. الشيء من الشيء. لكنها لن تترك الكأس فارغة وهي تجلس على أحداثها وكلماتها وفي كهوفها. وهي كهوف تظهر كأنها متصلة بسحاب الجبل، حين أنها شرفات من الظن الخالص أشبه ببيوت العقول المهجورة. هكذا لن يسود الصمت في لحظات الرواية، لحظة لحظة، حين يرتفع الكلام ويكثر كهدير باخرة بعيدة محملة بالخوف. تراشق باليأس. هكذا يظهر الأمر برمته وهي تكتب كما لو أنها تكتب على صفحاتها وعلى الأبواب والمساند والأسرة وأسلاك الهاتف. توقيعات لا تهدأ، بدون خوف أو رهبة. إنها تسند روايتها بالحوارات كما لو أن الحوار فرسها لعبور النهر إلى الشط الشاخص إليها. كأنها شهرزاد تخشى أن تتوقف عن الكلام، حتى إذا توقفت أخذها شهريار بسيفه. الكلام نجاة لا وصول. هي بذلك تنظر إلى الحقل، بدون أن يخيفها شيء فيه سوى خيال المآتة المنصوب فيه لاستقبال العصافير بالنباح المكتوم. ما إن يذوب حوار حتى يظهر آخر. الحوار على العتبة. هذا مصباح من مصابيح الرواية العربية في القرن الماضي وظفر من أظفار الرواية الحديثة. بعث الحوار بالانبلاج في يد والذوبان باليد الأخرى جزء من طريق الرواية العربية القديمة، وحاملات قبعاتها (البورت شابو). هكذا، تظهر سوسن شوربا قدوح وهي تسهر في مدينة الرواية الجديدة على شمع الروايات القديمة. رأس الرواية المصرية كريمة في رأسها وبين يديها. حتى أنها تسرقها من الرواية إلى المسرح والمسرحة. هواها المسرحي ساعة قلبها. لذا، حين تتكلم، تتكلم من رحمها. إنها تسعى إليها من دون سعي، لأن المسرح سهلها، ملكها، إمبراطورها الشاخص إليها وعلى يده نسر المسرح يطير وهو يرى قبعتها كقبة، ساحة هبوط طائرة. حتى إنها لا تمانع أن تغفو أمام الحوارات بالإشارة إلى المتحاورين. فلان: كذا وكذا وكذا. فلانة: كذا وكذا وكذا. لن يغيب السرد ولا الوصف ولا الخروج من أفجاج الرواية الأخرى، ما دام الأمر يخدم الرواية. سوف تستدعي الشعر من تلاله البعيدة في تلك الحوارات (الحوارات دوماً) على الفايسبوك مع اياد. حوارات يفرغها الأحياء كنهر عظيم يتهادى أمام حيتان العالم. أبطال بياض الشعر في عز الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي. لآلئ تلمع في الظلام بين الأرواح والأقدام الدامية، ثم لا تلبث أن تقف على غروبها وهي تتكرر كما لو أنها أموات تتراصف في مشرحة. تسقط كشيخ جليل من قطار تدور عجلاته بين السرعة والمهلة، وهو في طريقه إلى هدفه/ هواه، لأن الرواية هوى وهدف عند من لا تدخل في الرواية إلا لتخرج إلى المسرح.
تهب رياح الأنفة من جموع القراء في «الحب لحظات» حين تنشد شوربا قدوح جزءاً من حواراتها باللغة الإنكليزية. جزء واسع من الحوارات باللغة الإنكليزية. ما يحول الجمل هذه، لمن لا يعرف الإنكليزية، إلى جمل قاحلة. الرواية رواية نخبة، رواية نخب إذن، لا يهم المؤلفة أن يقرأها من لا يعرف الإنكليزية. وهم كثر، سوف تخرب قراءتهم لأنهم لا يجيدون لغة تجيدها المؤلفة. ولكن الإنكليزية طير يذهب مع طيور اللغات الأخرى، حيث تظهر اللغة كمصنع للشخصيات. مصنع مفتوح. اللغة كائن لا يقوم الكائن بالرواية بغيابها. لا شك بالأمر. لأن شوربا قدوح تلوح بالمسرح من خلال الحوار ومن خلال اهتدائها إلى الشخصيات. تركيب، تأليف الشخصبة، لا مسح الشخصية على الورق. حوارات وشخصيات مركبة، تحل في الرواية كما تحل الباخرة في الميناء. لن تندم على ما كتبته، لأنها تجد فيه دم روايتها. غير أنّ من لم يمر سوى بالمعري والجاحظ والفراهيدي، سوف يطفو على حواراتها بالإنكليزية، كما لو أنه يعبر على عصا العربية فوق سونيتات شكسبير. لأن الأمور سواء بسواء، إذا تعلق الأمر بالضرورة في هذا المجال، لا بالاستهواء.
إذن، رواية تهمها قشعريرة الكلمة أمام مواطن يقرأ ولا تهمها أمام مواطن آخر لا تومض الإنكليزية في حياته، إذ لم يلتقِ بها في هنيهة من هنيهاته. رواية لمن يستطيع أن يدلف إلى هذه اللغة. رواية تلفها الراوية بحديد التفريق بين قارئ وآخر. روايات قراء يقرأون لا قراء عاديين. يذكر الأمر ببعض الروايات العالمية كرواية «الحرب والسلم» لدوستويفيسكي، حين وجد في اللغة الفرنسية هره الأسود، ليضع قدمي الرواية في منظور مجتمع محدد. لمَّا أن الفرنسية لا تخبئ أنها لغة البورجوازيين والأرستقراطيين في الرواية.
لا تخبئ شوربا قدوح يداً وهي تكتب روايتها بأكثر من يد. يزاحم الشعر الرواية، يزاحم المسرح الرواية، تزاحم الإيديولوجيا الرواية. كما لو أن الرواية نافذة تفتحها الروائية لكي تطير كل عصافيرها منها دفعة واحدة. ثمة حجرات في الرواية. أشرسها وأكثرها قرصاً حجرات الإيديولوجيا، في فصول انتقال الراوية من عناصرها الأولى، عناصر طيرانها في عالمها الباذخ، إلى العالم المضاد لما أطعمها شكلها وسلوكها. كأن تترك القصر إلى منزل متواضع، وأن تقيم المقارنة بين الاشتراكية والشيوعية، مؤكدة لحبيبها الشيوعي أنها ولدت من جديد على فجرها الجديد، لكي لا يبقى وحده ولا تبقى وحدها. مرت في شيوعيته هو القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني. التحديد يقرض الواقع من الواقع. أما العبور من اليسر إلى الاستقرار بالعالم الجديد، فهو حيوان أملها في أن لا تخشى من يكاد يتحول إلى تمثال حين يودع شيوعيته في عينيه وأذنيه وعالمه بين بيروت وسويسرا حيث تقيم عائلته، من تحيا في برد الغربة القارص وغربته القارصة. ثم إنّ الكلام على الجنس، ما يبدو جلوساً على حجارة الرصيف، بالعراء، كلام صرخة/ لا جرأة فارغة. صرخة المرأة الأصغر عمراً في المرأة الأكبر عمراً، بحيث ينتهي الأمر بالهدوء الشديد والتصميم. يقود الهدوء إلى التصميم على ترتيب الحياة الجنسية لا كنجم ولا كحياة مدببة الأطراف، كحاجة لا تقيم في حياة المرأة بشكل رديء. الجنس مكمل هنا، لا صراخ مجاني في هايد بارك ولا أنفاس مجانية سوف تنتهي عالقة بأشجار الأغصان.
شهرزاد تخشى أن تتوقف عن الكلام، حتى إذا توقفت أخذها شهريار بسيفه


تتصاعد الرواية كما يتصاعد البخار من بحيرة ساخنة. طويلة، لكنها لا تتيبس. ميالة في بعض المساحات إلى روايات المراهقات، إلا أنها قادرة على رصد الفروق بين المراهقات والبالغات. حتى أن رفع البصر إلى الرجل الآخر كبديل لمن يوحي بإسدال الستارة على الحياة المشتركة بين المرأة والرجل، عودة إلى داخل المنزل لا خروج من المنزل. ثمة تبسيط بالكلام على السياسة والحزب، لكنه هادئ، شديد الهدوء، لكنه مفهوم، لأن الوقوف أمام مراكز الاشتراكية والشيوعية والانتقال من عادات النعم لا يهدف إلى التخلي عن ذراع لصالح ذراع أخرى ولا هرب من القريب إلى البعيد. إنه دوام الصائغ أمام المصوغ. لا تريد أن تبقى وحدها. هكذا تدحرج الكلام، لتؤكد أنّ الخروج من مساحة إلى مساحة لا مرور من باب إلى باب ولا إطلالة من نافذة إلى نافذة. إنه شيء متصل كما يتصل الماء بالماء، إذا ما تم الاستغناء عن التيترات والبقاء في الجوهر. هكذا، تضوع سوسن شوربا قدوح وهي تذهب من دمها إلى دمها، إذ تكف عن ممارسة لأجل ممارسة أخرى، لمَّا تقول: قل ما شئت على الطريق، ما دام الفم فمك، ما دام فمك فمك لا فم الآخرين. عندها الشيوعية والاشتراكية جزء من الحياة إذا لم ندر الظهر لهما بالخوف من عنوانيهما. إنه الإلهام الأسود. الإلهام الأسود دوماً. ذلك أن الرواية بكلها تبنى على الإلهام الأسود. إيقاع شيء بالقلب يطمئن له الصدر. إعلام خفي بثمار الفصول. هكذا تدع الروائية غيومها تستوي على صفحات الرواية، لكي يهدأ روعها ولكي يوافقها الآخرون على أن الماضي ينبوع ماء، لا يستطيع الالتفات إلى الوراء ما دام دربه أمامه. رواية ترصد منسوب الريح في الحياة، في نشيد يشبه أناشيد الطيور فوق كل المعاني، المعاني القوية بالأخص.