بعضُ الكُتّاب لديهم أسلوبهم الخاص، وسردهم المحبوك الذي ما إنْ تتعوّد عليه، حتّى تصبح لديك معَه صِلة قرابة، وفي الوقتِ ذاته، كلّ مرّة يأتيك باللامتوقع ليتناولَ المتوقع بطريقة استثنائية لا تدخلكَ مباشرة في الحكاية، لكنّك تتورّط فيها من حيثُ الأدب لا يُحتسب.هكذا هي لُغة كاتبنا يوسف فاضل في «غبار ونجوم» (المتوسط) التي ينتصرُ فيها التخييل الروائي الحُر على كلّ شيء، إذْ أنّه لا يكتبُ ما يُرضي المجتمع، بل يكتبُ الرّواية وِفقاً لما تقتضيه شُروط الأدب من دون ربطها بأيّ قيود، تُفرغها من محمولاتها الأدبيّة وتُصادر أفكارها، إذْ ينحازُ في عمله إلى الواقعيّة الجديدة، مُستخدماً الكتابة المشهدية، واستحضار التاريخ دون الإتيان بأبطالٍ جاهزين تاريخياً، بل يستحضرُ الذاكرة انطلاقاً من الماضي، للكتابة عن أبناء الهامش الذين لعبوا في الحياة كلّ الأدوار، في حين يأخذ دور البطولة أبناء المركز، الّذين كانوا في الحياة مجرّد «كومابرس».
في كتابةٍ تميلُ إلى الاقتصاد اللغوي، والجُمل الشِعرية القصيرة، يأخُذنا يوسف فاضل في روايته إلى المغرب بنجومها وغُبارها، وثِقل حكاياتها التّي لم تُكتَب.
يقول على لسان كوثر: «أسأله وأين نجمتي، فيقول أنت النجمة. أتمنّى أنْ يُحالفني الحَظُّ الّذي يحالف كواكبه وأظلّ بعيدة. أسأله وأنت ؟وأنا الغُبار».
تُرى ما هي النُجوم التّي تحدّث عنها يوسف وما رمزية الغُبار في الرواية؟
ينتصرُ يوسف فاضل للإنسان ككائنٍ وُجد ليستحقّ حياةً أفضل، إذْ يقول على لسان شخصيات عمله: «فكرتي هي تطهير الأرض من جميع الجراثيم. شيوعيين وغير شيوعيين. اشتراكيين وغير اشتراكيين. وإسلاميين مغشوشين. وبوديين وهندوس. وعبدةَ الشَياطين. وعبدةَ الأفاعي والقِردة».
يكتبُ عن هؤلاء الّذين يمرُّون في الحياة دون أنْ يُحدثوا ضجيجاً ولا صوتاً، لكنّ أثَرهم نلمَحه يوميّاً، فهم كالنجوم في ليلة ظلماء ينيرون الدُروب الموحِشة، يكتبُ عن الحُبّ المستحيل، الحبّ الذي يستمدُ صلابته وقوته من الحبّ نفسه. إذْ أنّه يعبّر عن الحبّ بشيءٍ من القَدسية، التي تتجاوز مفهوم الجَسد إلى الروح التي تُحبّ وتعيش على تلك المشاعر، تقول كوثر: «زكريا والشمس سيّان. جاءا ليتوهّجا حولي إلى الأبد.»
ويقول زكريا: «أتذكَّرها الآن بحنين أستغربُ له. وأنا الذي اعتقدتُ أنني شُفيتُ».
يربط يوسف فاضل الحبّ، بالمُجتمع وكلّ ظروفه، فالأكيد أنّ الواقع بكلّ تناقضاته يشكلّ خلفية قوية، يستمدّ منها الروائيُّ قدرته على الكتابة، متجاوزاً مفهوم السُلطة وغيرها من الأمور التّي قَد تُعيق مِخياله السّردي.
يتناولُ تناقضات الشّخصية المَغربية، ولربّما الشّخصية العربيّة بشكلٍ عام، وكما قال على لسان الراوي: «يؤمنون بالطريقة التي عليهم ألا يؤمنوا بها».
فإيمانهم مزيّف، بعيداً عن مفهوم الإيمان الحقيقي. في عبارة أخرى في الرّواية، يقول: «الإسلاميون يهاجمون الشيوعيين. أو العكس. لا أفهمُ لماذا يتعاركون. جميعهم يصومون رمضان ويذهبون إلى الحج. لماذا يتعاركون إذن؟».
ينتقدُ الكاتبُ في هذه الفِكرة الازدواجية التّي تعيشُ وِفقَها الشّخصية العربية، وكيف أنّها تؤمنُ بما تكفر به في سلوكاتها اليومية، إذ أنّ الإيمان عندها قائمٌ على عباداتٍ جوفاء لا تمُت بصلة للواقع، واقع القلب الّذي إذا صدقَ صدقتْ كل الجوارح.
أزمة رواية «غُبار ونجوم» أزمة ذاتٍ تعيشُ على التناقضات وتقتاتُ على المعارك الوهمية والحروب الخاسرة التي ضيّعتْ أجيالاً بحالها.
في هذه الرواية، يقدّم لنا يوسف قراءة في في تناقضات النّفس البشرية من جهة، ومن جهة أخرى يُعطي للقارئ صورةً أخرى عن الحبّ وهواجسه التي يعيشها المحبوب، والتّي قد تكون عالَماً بذاته لا يعلمُ عنه أحد، فالحبُّ عنده ليس كمثله شيء. إذ أنّه ينظر إليه من زاويا أخرى، ذلك الحبّ الذي يغيّرنا، وليسَ الحبّ الذي نحبّ من أجله الحبّ كضمانٍ للاستمرار؛ وكأنّه بطاقة هويّة تثبتُ أنّنا على قيد الحياة، فهو يكتبُ عن الحبّ الذي يشكّل هويّتنا يقول: «أنا في السادسة والخمسين. قمتُ بكلّ ما يمكن القيام به. قمتُ حتّى بأشياءٍ لا تخطرُ على بالِ أحد. زُرْتُ مؤسسات صحيّة لا تُحصى. خرجتُ إلى الشارع أركضُ عارياً وتحت إبطي ثلاثة كتبٍ في الفلسفة. مكثتُ في مستشفى الأمراض العقلية تسعة أشهر. وحان الوقتُ لأتبدّل. إنّني في السادسة والخمسين وأمُرُّ بتجربة فريدةٍ منذ اللحظة التي حطّت عيني على غالية. أٌقضي النهار كالأعمى كي أفتح عيني عليها».
وفي عبارة يقول: «العافية لم تكن مطلبي في يومٍ من الأيام قبل أنْ ألتقي بها».
إذ انّه لا يمَجّد للحبِّ المُتعارف عليه وللمشاكل المعروفة بين أبناء المجتمع، بل يمزجُ الواقع والخيال، وإبداعات الكاتب الخلّاقة، نعم الخلّاقة، فهو يخلقُ في النصّ مشاهد غير مُتاحة لا في الواقع ولا في الروايات التي نَسخَتِ الواقع كما هو، حتّى ما عادت بعض الرواية تبهر، بل يكتب روايات، بلُغته الخاصة وتعابيره المنتقاة ليتماهى كلّ قارئ معها دون إفراط ولا تفريط.
بل أحيانًا نشعر أنّنا في عالم سحريّ، يقولُ بالكلمات العادية أشياء غير عادية.
«وتقول له لماذا لا تكون لطيفاً معي دائماً.
ويقول لها عندما نصل سأشتري مركباً وآخذكِ إلى النهر. ويمسك بيدها. ويضع يده على خدها.
ويقول لها هل أحكي لك قصّة العاشق الذي يأخذ عشيقته المشلولة على عربة صغيرة.
وتقول له أحبّ أنْ أسمع قصّة العاشق الذي يأخذ عشيقته المشلولة على عربةٍ صغيرة.
ويقول لها انظري إلى هذا الحَجر كم هو جميل. وتنظر إلى الحجر وترى أنه جميل».
يمتلكُ يوسف فاضل ناصية الإبداع وقوّة الخيال، فهو يجعلنا نقاربُ النجوم من دون أنْ تتأثر عيوننا بالغُبار حين يتحدّث عن أشيائنا الصغيرة بعيون الآخرين، لكنّها نجومنا التي تضيءُ عتمَة ليالينا.