وأخيراً بلغ صاحب «الريل وحمد» محطّته الأخيرة، أخيراً مضى بعيداً عن هذا العالم. جذوره هاشميّة أرستقراطيّة من شبه الجزيرة العربيّة، وفي بلاد الهند حكم أجداده أجزاء واسعة منها، حتى إذا صار تصادم مع الإنكليز تمّ نفي الأسرة إلى العراق، وفي بغداد، وعلى يد قابلة ألمانيّة، أطلّ على العالم. وهو كم سيؤرِّق حكّام العرب الذين كم أساؤوا ومنهم الذين لم يتورّعوا أن يقبضوا على خناق الناس، أن ينكّلوا على الشبهة والظنّ وأن يقتلوا بوحشيّة.
نشأ خجولاً منطوياً في بيت كبير فيه أكثر من 30 غرفة. وعلى رغم أصداء الثقافة والأدب والفنّ التي تتردّد في جنبات هذا القصر، وعلى رغم أسرة فيها الأمّ والأبّ والأعوام والأخوال والجدّ بين شاعر وبين موهوب في الرسم أو العزف على آلة موسيقيّة مثل البيانو أو العود ظلّ وحيداً حتى انخراطه في حركة النضال اليساري من أجل الحياة الإنسانيّة الكريمة وقد استفزّه جبروت الإقطاع ـ في النصف الأوّل من القرن الفائت ـ على الأحرار فتحرّر ممّا كان فيه.
وكان لا بدّ أن تتعقّبه السلطات، وكم تعرّض للتعذيب، وكم عرف الإعتقال لسنوات، وحفر مع ثلاثة رفاق له مسجونين معه نفقاً ـ عشرين متراً ـ وعمقاً ـ ثلاثة أمتار.
وظلّت ترافقه الرِقّة حتى وهو قابض على السلاح.
هكذا سليل الأسرة الأرستقراطيّة تشتبك به الحياة ويشتبك هو بها.
ولأنّه خبر القسوة من القساة ولأنّه شاعر مطبوع ولأنّه فارس حقيقي رفع راية القصيدة منذ لحظة الإصطدام الأوّل صادحاً بالفصحى وبالعاميّة حبّاً وكرامة للمقهورين وصواعق على كلّ زناة الليل.
ترى في قصائده روعة العشق، وترى بأشعاره آمال الوطن الحرّ، وتراه ينشد أحلام الشعب السعيد، وانتقى أشنع وأقذع الألفاظ من مفردات العرب لتحطيم الأصنام.
قضى عقوداً من عمره منفيّاً عن مسقط رأسه، عن العشق الأوّل، يبحث عن منفذ حقيقي ليرجع إليه، ورجع إليه أخيراً، ويا لها من عودة يواسيه فيها فقط أن يجاور الأبديّة في تراب العراق.
أجيالنا نشأت على إسم مظفّر، هو من بلاد كانت سومر، من بلاد آشور وبابل، من بغداد الخلافة والأنوار إلى الكافّة من المحيط إلى الخليج. وكم يستحقّون الثناء، بغضّ النظر عن من هم، أولئك ـ ولو متأخّرين ـ الذين أوقفوا مطار بغداد الدولي على إستقبال جثمانه الشريف بإحتفال رسمي حقّاً مهيب تحفّه أعلام الثقافة وطلائع الشعب من الأطياف كافّة.
وداعاً أيّها الرقّة ويا غضب الحريّة، وداعاً يا ربيع العشق، وداعاً أيّها الكلمة المشعل في مواجهة ضيّقي العقل والأفق، وداعاً أيّها الروح العالية وهي لا تكفّ عن الترنّم بالقدس ـ قدس فلسطين ـ معموديّة كلّ مناضل وشريف حقّاً في الأرض، وداعاً أيّها العَلَم.
لك أيّها الشاعر الخلود وفينا العزاء مشترك بالسموِّ بك.