تأتي المقاومة على أشكالٍ عدّة؛ واحدة منها هي «المقاومة الثقافية المشتبكة»؛ والتعبير الذي أعاده الشهيد باسل الأعرج إلى الواجهة مرتبطٌ عضوياً بفكرة أن «تستعمل ثقافتك كأداة هجومية ضد عدوّك». في الوقت عينه، تأتي الموسيقى/ الأغنية/ العمل الدرامي في العصر الحديث، بمثابة الآلة الحربية الأمضى؛ إذ إن أميركا استطاعت ارساء حضارتها فوق الآخرين -وجماجمهم لاحقاً- عبر الدراما الهوليوودية؛ وهو ما يفعله -عينه- الأتراك عبر الدراما اليوم. يأتي فيلم «سقطت» القصير (إنتاج واخراج مجموعة «القضية») بمثابة ضوء في عتمة شُح الأعمال المقاومة ذات الأبعاد القوية والبعيدة كل البعد عن التنميط والكليشيه وسهولة التنفيذ والإداء.«إنه جهدٌ جماعي، بذل فيه كثيرون من الذين يفضلون أن يعملوا لأجل أوطانهم على طريقتهم؛ من التصوير، إلى المونتاج، إلى الموسيقى، إلى جميع تفاصيل العمل. بعضهم يريد أن يبقى مجهولاً، والبعض الآخر يفضّل أن يُعرّف عمله على إسمه، هذه خياراتهم؛ وبالتالي علينا أن نحترمها» يشير مخرج العمل المخرج اللبناني كامل حرب في حديثه عن المجموعة التي أدت هذا العمل والتي تعرّف عن نفسها بإسم مجموعة «القضية». وهو الإسم الذي وسمت به هذا الفيديوكليب/ العمل. الأمر نفسه نجده في ختام الكليب الذي وسم «شارك في هذا العمل ما يزيد عن 140 فناناً وتقنياً عربياً وعالمياً أهدوا أسماءهم إلى فلسطين». فعلياً نحنُ أمام منظومة عملٍ منظمة، استطاعت أن تخرج عملاً درامياً قصيراً، فيه حرفةٍ مرتفعة. الحرفة هنا لا نعني بها التصوير فحسب، فهناك أعمالٌ كثيرة صورت على طريقة الفيديوكليب وتمتلك الكثير من الصورة الجميلة، والألوان الزاهية المؤثرة، لكن ما هو مطلوبٌ في عملٍ يراد منه التأثير، أن تكون حرفة «الحكاية/ القصة» موجودة فيه.
يبدأ العمل مستحضراً التاريخ المعروف حول القضية الفلسطينية، مع استخدام الموسيقى والكلام الخلفي، واستذكار أيام قاسية من الصراع العربي الصهيوني وصولاً إلى خسارة الأراضي الفلسطينية عام 1948. يلحظ في البداية استخدام التسجيلات الصوتية للعديد من الإذاعات العربية، فضلاً عن مشاهد من الأرشيف لدخول دبابات الجيش العربي إلى فلسطين؛ فضلاً عن الانتصار العربي الكبير في أكتوبر وعبور وتدمير خط بارليف المعروف، مع صوت الإذاعة المصرية وجملة «جاءنا البيان التالي» التي أرّخت لذلك الإنتصار. يبدأ بعدها «سقطت» بقصته المبدئية؛ إنها «قريةٌ» وادعة، ذات القرية التي أرّخ لها الأخوان رحباني ذات يوم. على الرغم من كونها أقرب إلى الحلم، تشبه أي قرية من قرى الوطن العربي الممتد. رجلٌ على ما يبدو فلسطينياً (لارتدائه الحطّة الفلسطينية البيضاء) وولده يراقبان طائرات العدو الصهيوني تشن هجومها قصفاً على مخيّم جنين. استخدام جنين جزء من المخيال العربي المقاوم، نظراً لما للمدينة كما مخيّمها من وجود كمركز وشرارة لمقاومة الاحتلال الصهيوني. الرجل كما الطفل يتابعان الهجوم فيما الطائرات تقصف، وفجأة تستهدفهما الطائرات. ننتقل بعد ذلك إلى شابٍ وبحسب الظاهر إننا لا نزال في الزمان نفسه؛ المخيّم ذاته يتعرض للقصف. هنا تطل الفنانة السورية المعروفة روبين عيسى، بدور والدة تبحث عن أحد أطفالها، والتي نتبين لاحقاً بأنها ابنتها. مشاركة عيسى في العمل أضافت الكثير كون الممثلة السورية قادرة على الأداء بحرفةٍ عالية، وهذا يحسب للعمل وصنّاعه الكثير، إذ إن إضافة ممثلة لها وزنها كروبين أعطى العمل لا مصداقية فحسب، بل عمقاً واتساعاً ضرورياً لإنجاحه وإثبات أهميته. طبعاً في العمل مجموعة كبيرة من الفنانين الموهوبين والمعروفين أمثال محسن عباس (الرجل المسن في العمل الذي يبكي ولده) وللمفارقة، فقد رحل قبل عرض العمل بسنة، ما جعله يفوّت لحظة اطلاقه؛ كذلك نذكر زامل الزامل، يامن سليمان، فادي شاعر.
الديكور كما تفاصيل الدمار/ الخراب كان حقيقياً ودقيقاً، وهذا أيضاً يحسب للعمل، إذ يظهر تنبه صناعه للتفاصيل. سرعان ما تبدأ مرحلة المقاومة بخروج مقاتلين فلسطينين من الأنفاق حاملين صناديقاً كتب عليها «وعدُ الآخرة». ويستعير العمل مشهداً من فيلم «يد إلهية» للمخرج إيليا سليمان، حينما يرمي الطفل حجره على طائرة صهيونية في السماء ليسقطها، ولو مجازياً. تبدأ قوات عربية/ اسلامية بالتحرك صوب فلسطين. وعند ختام الفيلم، نشهد لقاء أهل فلسطين المحررة بجيوش محرريهم. فنجد لحظات العناق، والاحتفال وهي لربما من أفضل لحظات العمل وأقواها. يختتم بمشهد الطائرة الورقية التي تحلق عالياً، فيما الصواريخ تهبط على مبنى «الكرياه» مقر وزارة الدفاع الصهيونية في عاصمة الاحتلال وتدمره. ورغم أنه ليس في الكليب أي نوع من الكلام تقريباً، فإنه هناك غناء أداه الثنائي كارول عون ومحمد صفي الدين وكان مميزاً إلى حد كبير. وعند نهاية هذا العمل الاستشرافي، نجد نوعاً من «التقرير» الخبري الذي يروي كيف «احتفل أهالي القدس بوصول قافلة التحرير الأولى» و«أبحرت آلاف المراكب من ميناء غزّة بإتجاه ساحل مدينة يافا. وضجت الأخبار العالمية ووسائل التواصل بمشاهد مباشرة تؤكد أن إسرائيل قد سقطت».
اجمالياً، العمل ضروري ومهم؛ استشرافي ومشتبك. ضروري لأن هذا النوع من الأعمال يجب المراكمة عليها، تكرارها وإعادة انتاج مثلها وحولها. استشرافي ومشتبك ذلك أنه يقول بأن سقوط الكيان الصهيوني أمرٌ محتم مهما حدث. أدائياً وتقنياً، يمكن الحديث مطولاً حول جهد الشباب المتطوّع الذي «أهدى أسماءه لفلسطين» وهذا يحسب كثيراً ويعتبر من أفضل الصفات «ذلك أن هناك كثيرين يرغبون بتقديم كل ما لديهم لتحرير فلسطين وينتظرون الفرصة» حسبما يخبرنا مخرج العمل. ويذكر أن العمل كان قد عرض في حفلةٍ خاصةٍ في تونس وكان له صدى كبير ولقي ترحيباً كبيراً من الجمهور هناك، الذي «لا تزال بوصلته تجاه فلسطين واضحة وظاهرة» كما يخبرنا مخرج العمل.