«ريما خشيش: برنامج الحفلة». تتصفّح بروشور الأمسية بقلة اكتراث وتعب عبّر عنه مرةً بأجمل ما يكون الشاعر الراحل بسام حجّار. ها نحن نحاول بما بقي من غريزة، النهوض وسط حطامنا وما استمرّ من أمانينا. يتوافد الناس إلى «مسرح المدينة» للقاء الفنانة اللبنانية التي اختتمت «أيام بيروت السينمائية» عام 2006، عشية الدمار والخراب الذي لحق بالبلد جراء العدوان الإسرائيلي. تذكّرنا بذلك مقدّمة الأمسية قبل أن تقول إنّ هذا الموعد الذي يتكرّر عام 2022 في «مسرح المدينة»، يأتي مجدّداً تعبيراً عن إرادة الصمود والعصيان على الموت المحيط بنا (بهذا المعنى). لكن أنتَ ما زالت عالقاً مع ذلك العجوز، الذي رأيته قبل لحظات، يفترش الأرض بالقرب من المسرح في شارع الحمرا، يتوجّه إلى المارة قائلاً «اللي بيطلع من خاطرك»... عالقاً في الظلام الذي يعمّ المدينة، والموت الحرفيّ الذي يسكن الأرجاء، والدولار الذي علّق حياتنا وأنظارنا وقدرتنا على الحلم... كلّها تجعل قرار خروجك من بيتك ضرباً من الانتحار والعبث، فكيف بالأحرى الذهاب لحضور أمسية فنية تستعيد باقة من أغنيات السينما الغنائية الكلاسيكية المصرية؟ يا لها من رفاهية... على أي حال، القرار «الانتحاري» اتُّخذ، والحياة يجب أن تستمرّ، تقول لنفسك، قبل أن تقطع الفرقة الموسيقية حبل أفكارك (ميشال خير الله وأنطوان خليفة ومنى سمعان/ كمان ــ عفيف مرهج/ عود ـــ صادق ملاعب/ قانون ــ نديم روحانا/ أكورديون ـــ مكرم أبو الحسن/ كونترباص ـــ وسيم الحلو/ طبلة ـــ روفن روبيك/ رقّ) وتعزف مقدمة «على بلد المحبوب ودّيني» لأم كلثوم (كلمات أحمد رامي ـ ألحان رياض السنباطي ــ من فيلم «وداد» ـ إخراج فريتز كامب ــ 1935). يحضّرك الموسيقيون لصعود ريما إلى الخشبة بضحكتها وعفويتها وتلقائيتها. صوت يذكّرك بكبيرات الأغنية الطربية العربية، هي التي قرّبت هذا التراث الغنائي من الجيل الشاب عبر إعادة قولبته في تجربة هي الأنجح في جيلها، وأداء متواضع ورزين تستشعر به خجلاً واحتراماً كبيراً للذات وللجمهور. تقول للحضور: «اشتقتلكم» وبعض الكلمات العفوية الأخرى، قبل أن تبدأ الأمسية التي تخلّلتها تحية خاصة إلى العبقري المجدّد عبد الوهاب بغناء ثلاثة مقاطع: «يا ناسية وعدي»، و«انسى الدنيا»، و«يا دنيا يا غرامي».
تباعاً، تستدعي ريما على الخشبة هدى سلطان («حبّني بعينيك»، «وحياة عينيك»)، وليلى مراد وصباح («الحلو ليه تقلان»، «أحبّك ياني») وشادية (أحبّك)، وحتى سعاد حسني «بتحريض من أنطوان خليفة» كما قالت، فغنّت لها «خلّي بالك من زوزو» و«يا واد يا تقيل»، وأخذتهما إلى مساحة تطريبية وأعادت طبعهما بهويتها المغايرة. ريما على الخشبة تحيطها أشباح الماضي والحنين. لعلّ المحطّة الأجمل في السهرة كانت استعادتها أغنيات ليلى مراد مثل «الحبيب» و«الدنيا غنوة» و«ما ليش أمل» بصوتها المفتوح على أفق لا نهائي. لقد أبدعت ريما خشيش أول من أمس. تطويع صوتها القوي بمرونة وخفّة بلغ ذروة النضج، واشتياقها للجمهور اللبناني بدا واضحاً في تفاعلها مع المناخ والأغنيات التي قدّمتها. خشوع كالصلاة في صفوف الجمهور. تخرق الصمت بين الفينة والأخرى كلمة «الله» حين يفعل التطريب أو التأثر فعلهما. تخرج من المسرح بعد ساعة ونصف وأنتَ تدندن مع عبد الوهاب «دوء الجمال واتمتّع بيه/ من قبل ما يدبل ويزول/ وأوعا يفوت يوم تحزن فيه/ واسهر ده بكره النوم هيطول». أول من أمس، ضربت ريما لنا موعداً «مجانياً» مع الحلم، مع الخفّة، مع الخيال... وهبتنا حياةً مستقطعةً بين موتَين!