هذه الكلمات لا أكتبها بعد موت حسن عبد الله. كنت كتبتها طوال الأسبوع الفائت مرافقاً لديوان «راعي الضباب»، وقد عدت إليه وغالباً ما أعود إليه لأنّي أحبّه. طريف ومريح وبرغم الدراما مرح وحتى مع الموت... ومع المرض ومع الحب الذي هو بالنسبة إليه جرح يدمله ويضحك، ومع الحرب. جداً طريف ومفاجئ حسن عبد الله، ولم أجد أحداً قال أو يقول ما يقوله... في الحب مثلاً، في قصيدة «مرّ عام»، يقول بعد انحلال الحب: «لا أحبّ/ لا أحبّ.. وحدتي قلعتي/ حيث جسمي قوي وقلبي منيع وسرّي مقدّس/ أية امرأة تتقدم من جنتي هذه سأواجهها بالمسدس».يا لجمال ما أقرأ ويا للخفة والمفاجأة والطرافة وانتزاع الشوك من قلب المحب المكسور حسن عبد الله. ليس رخو الأحاسيس هو حادّ. عفوي مريح مفاجئ، يحوّل كل ما يصادفه إلى شعر، كل ما يلمسه إلى شعر ودهشة. وأيّ شعر؟ شعر حرّ بريء طازج جديد بسيط وعميق وساخر وساحر، ولا يذكّرني الا بنفسه.... وربما أوحى لك بأنّه مباشر، أي يكتب الشعر بتلقائية وبلا تكلف. تماماً كما يدخن أو يلقي بملاحظة ساخرة، لكنّ التروي في قصائده من «الدردارة» التى أذكر أنّي أحببت إلى «راعي الضباب»، يشير الى شاعر يفكر بالقصيدة ويخطط لها، وحين يتركها تمشي الهوينا يصاحبها ويراقبها ويشذّب منها... فالفكرة السابقة تمنحه السرد والحكاية والإيقاعات الخفيفة الحرة وغير القاسية والهندسة المؤكدة. لعل لشعره إيقاعات الحياة ذاتها بانتظامها ولاانتظامها. هادئ شفاف غير مفجع طريف صامت، صاحب إشارة، حزين لكن بلا تفجع، مرح يضحك على أنف الخطر والكارثة
وهو جريء. يقول في قصيدة «الطبيب الكبير»: «إنها لحظة لندخن/ نحن الرجال الظلال/ لحظة نفكر فيها بأنّ الجسوم التي حملت ثقل أرواحنا/ عملت كالبغال». ويقول بحكمة مرّة «الحياة مرض». وفي القصيدة حزن الموت، موت مهدي... ومهدي هو صديقه المفكر الشهيد مهدي عامل (حسن حمدان) وذكريات الحب والتدريس في صيدا وفاطمة «فاطمة/ وغياب عميق لمهدي كأنْ مات...» ومراثي مهدي تزنّر الديوان يبدأها وينتهي بها. لكن أيّ رثاء جديد مفاجئ وعميق بلا تفجع، هذا الذي يكتبه حسن عبد الله في مهدي؟ في قصائد الفراق «مرّ مهدي ولم يرها/ مرّ بين الثلاثاء والأربعاء/ ثم اختفى». «وهو مهدي/ وهي الندم القارص العمر/ فكر بي ونهاني عن الشعر/ قلت له: إنها، ولنسيانها أنا أحتاج رطلاً من العضلات». هنا سحر وليس شعراً، بل شعر برتبة سحر يمزج بين الطرافة والحب والصداقة والموت بضربة واحدة.... وهو أخيراً يمزج بين قبر حرب وقبر مهدي: «قبر حرب أتى وجلس/ معنا ينتظر/ قبر حرب أحسّ/ فجأة بالضجر/ ومضى وانقضى عصر حرب وجاء أخوه الصغير».
الآن ونحن على مسافة لا تصدق من موت حسن عبد الله، نرغب في أن يكون موته كمثل قصيدته «وهم من أوهام الربيع» حيث تلك العناصر الأولية للحياة ربيع وجدول وفتاة دون العشرين «تمشط شعر العجل». طاب للشاعر أن يقطف عصفورين عن الشجرة. وحين لاحظ أنهما لم يخافا منه وسألهما عن سبب ذلك «ابتسما/ وأجابا من أعلى الشجرة/ عجباً/ أوَنهربُ من شخص يتخيّل؟».
هل مات حسن عبد الله حقاً، أم نحن نتخيّل أن حسن عبد الله مات؟