لصّ مُغرم بصوت أسمهان!

  • 0
  • ض
  • ض

لصّ مُغرم بصوت أسمهان!

لا تشبه الفكرة التي تُطاردك في السادسة صباحاً مثيلتها في التاسعة مثلاً! ثلاث ساعات ستطيح الإشعاع الأول وكثافته ومراياه. على الأرجح ستفقد الفكرة بريقها وتتلاشى تدريجاً. ستذوب تفاصيلها مع القهوة وأنت تستعيد شريط مناماتك وكوابيسك. ترغب أن تمتدح هذا الصباح من حزيران متجاهلاً آثامه المتراكمة، لكن البهجة الطارئة لن تصمد طويلاً، كأن تباغتك (زقزقة العصافير)! لا أعلم من أضاف هذه العبارة إلى مواضيع الإنشاء التي تستحق علامة كاملة! أصوات تثير سخطي لفرط الإزعاج المبكر. أشكّ بأنها سبب أساسي في تكدير مزاجي الصباحي. لن أهمل أيضاً، منظر الرجل الذي يعتني بطيوره المدججة بالأقفاص في الشرفة المقابلة. ثم إنني أمقت هذا الطراز من الهوايات التي تدّعي العاطفة، ذلك أن رجل الأقفاص نفسه، لصّ حكومي محترف أفرغ خزينة المؤسسة التي يديرها من دون أن ينال توبيخاً عابراً. لكنه يحب تربية الطيور وأغاني أسمهان بوصفهما هواية معتبرة تحميه مؤقتاً من التكهنات السيئة بالنسبة لمن لا يعرفه عن كثب. بإمكان اللص نفسه أن يحدثك بشغف عن أنواع الحساسين، وأهمية لحن محمد القصبجي لأغنية أسمهان «يا طيور»، خصوصاً ما يتعلّق بالمقدمة الموسيقية للأغنية والإيقاعات الجديدة التي توحي بحركة الطيور، والتوزيع الهارموني المرافق لصوت أسمهان السوبرانو الحاد بالتناوب مع مقام البيات الشرقي. كانت الفكرة التي انتابتني في السادسة صباحاً : كيف للصّ أن يُغرم بصوت أسمهان، وفي الوقت نفسه يقف بكبرياء في قفص المحكمة برفقة ثلاثة محامين لنفي تهمة الاختلاس المؤكدة عنه، وذهابه في اليوم نفسه إلى سوق بيع الطيور لتعزيز هوايته، وكأن شيئاً لم يحدث. سأنتبه في الأيام التالية إلى أن اللصّ نفسه أضاف هواية جديدة، إذ كانت شرفته تغصّ بأنواع النباتات والزهور. حسناً، ماذا نفعل حيال رجل اختلس محتويات خزينة المؤسسة الحكومية التي كان يديرها، ويربّي ــ في الوقت نفسه ــ الطيور والنباتات، ويُغرم بصوت أسمهان؟ في الروايات، سينتصر حكاؤون كثر لهوايات الرجل، ذلك أن المعجم سيمنحهم بسخاء مئات أسماء الطيور والنباتات، ثمّ أن الرجل مغرم بصوت أسمهان، ما يمنح المدوّنة شاعرية إضافية، خصوصاً في حال استثمر أحدهم حادثة غرق المغنية التي ولدت على ظهر سفينة شحن يونانية مبحرة من إزمير إلى بيروت في ذروة الحرب العالمية الأولى: هل كان الحادث مدبّراً لصاحبة الصوت الملائكي التي هزّت عرش أم كلثوم في ثلاثينيات القرن العشرين، كما أُشيع حينذاك؟ أم أنّه محصلة أكيدة لعلاقاتها الملتبسة مع أكثر من معسكر خلال الحرب العالمية الثانية؟ أم لعلّه قدرها بحسب نبوءة عراّفة أخبرتها بأنّها ستموت باكراً؟ علاقاتها المتشابكة مع الألمان والفرنسيين والبريطانيين، ألصقت بها صفة «الجاسوسة في المقام الأول، لكن ماذا عن حياتها كمغنية استثنائية أو أيقونة وجسد وصوت؟ أفكار سأصرفها على دفعات لدرجة أنني نسيت شخصية اللص الذي كان يعتني بسقاية نباتاته في الشرفة المقابلة. عموماً، لا أميل إلى شخصيات من هذا الطراز، لكن ظلالها تمنحني أفكاراً موازية: قبل أن يقطن هذا الرجل في البناية المقابلة، كنت أتمتع بصباحات رائقة على السطح إلى أن حجب هذا الشخص منظر الجبل أمامي، ببناء طبقة إضافية مخالفة للعمارة بصفقة سريّة مع شرطة البلدية، فاختفى جزء من منظر الجبل، وجزء من المئذنة في الشارع القريب. محاولة نسيان اللص، أحالتني إلى رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، رغم الفروقات الواضحة بين سيرة «سعيد مهران» واللص الذي يتلصص عليّ من خلف قضبان أقفاص الطيور والنباتات. صحيح أنه أسهم بتغيير فتحة الفرجار قليلاً نحو أفكار ملتبسة إلا أنه مجرد شخص وضيع. كنت أرقب من سور السطح خطواته المضطربة في الشارع، وكأن أحداً ما يطارده، وسيقبض عليه متلبساً. المفارقة أن التحقيق بفضيحة اختلاس أموال خزينة المؤسسة، كما نشرتها الصحف حينذاك، جرت وقائعها بإشراف اللص نفسه الذي شكّل (لجنة) مهمتها كشف حجم الاختلاسات، على أمل أن ينجو من المساءلة، لكن شركاء له في الاختلاس فضحوا لغز اختفاء الأموال، فاضطر إلى أن يوزّع جزءاً من المسروقات على بعض الجهات، قبل أن يُطرد من منصبه. لجنة؟ مشهد سيحيلني إلى رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم من جهة، وإلى رواية «المرتشي» للطاهر بن جلون، من جهة ثانية. ولكن أين ذهبت فكرة السادسة صباحاً؟ ثم، أقول لنفسي: علينا أن نحذر من زجّ (زقزقة العصافير) في صوغ جماليات مضادة.

0 تعليق

التعليقات