منذ فترة، استحالت منصات التواصل الاجتماعي ملاذاً أساسياً تلجأ إليه ضحايا الاغتصاب أو التحرّش أو العنف أو غيرها في ظلّ نظام اجتماعي ذكوري ــ أبوي ينتصر للجلّاد على حساب الضحية، وغياب القوانين المنصفة والحامية. مشهد عربي يأتي في جزء منه انعكاساً لحملات مناهضة لارتكابات مماثلة غزت أيضاً وسائل الإعلام والسوشل ميديا في الغرب الذي يدّعي التحرّر والديمقراطية وحماية الإنسان وحقوقه. اليوم، يضجّ المشهد الفني والثقافي العربي بفضيحة كشفت عنها الناشطة في المجال الثقافي، اللبنانية فاطمة فؤاد.عبر حسابها على فايسبوك، كشفت فؤاد عن تعرّضها للاغتصاب في ليلة رأس السنة 2019 ــ 2020، يوم كانت تعمل مديرة لمساحة ومكتبة «برزخ» في الحمرا. شاركت فؤاد في تنظيم حفلة لاستقبال العام الجديد وافتتاح هذا الفضاء البيروتي بالتعاون مع فريق «معازِف» وBallroom Blitz، حملت اسم «تسقط الـ anxiety»، شارك في إحيائها 12 موسيقياً عربياً، من بينهم الفلسطيني ــ الأردني ب. س. والمصرية آ. م.، اللذَان «قاما بالاعتداء عليّ عبر تخديري رغماً عنّي واغتصابي، بتاريخ 31/12/2019».

(وكالة غيتي)

بالتفاصيل المملّة، روت فؤاد عبر الموقع الأزرق ما جرى معها في تلك الليلة المشؤومة، ساردةً ما حدث ومستعيدة المشهد بكلّ بشاعته. صراحة صادمة عرّت من خلالها موقف «معازف» (تصف نفسها بأنّها مجلة الموسيقى الأولى والأخيرة من نوعها في العالم) التي «أصرّ» مديرها م. أ. ط. على «لفلفة الموضوع وعدم نشر بيان يدين المغتصب ب. س.، متجاهلاً شهادة عضوة في الفريق سبق أن اعتدى عليها ب. س. بالضرب خلال فحص الصوت في الحفلة نفسها، ومتغاضياً عن روايات عدة متداولة ومسموعة لناجياتٍ من مصر والأردن تعرّضنَ لمضايقات واعتداءات من قبل ب. س.، بحجّة أنّه يعرفه جيداً». وختمت فؤاد البوست المطوّل بالتأكيد على أنّ «الخاص» (Inbox) في حسابها «مفتوح لشهادات الناجيات اللواتي يرغبن في مشاركة تجاربهنّ بشكل مجهول ونشرها عَبري حفاظاً على أمنهنّ وسلامتهنّ... عسى أن ننتظم يوماً في إطار سياسي نسويّ مقاوم».
وفور خروج هذا المنشور إلى النور، تفاعلت القضية بشكل كبير على الفضاء الافتراضي عبر العالم العربي، فيما وُلدت حملات تضامن واسعة مع فاطمة ترافقت مع هجوم شرس على الفاعلَيْن. حادثة سلّطت الضوء على العفن والازدواجية داخل مؤسّسات ثقافية وفنية تحصل على تمويل أجنبي وتعقد شراكات مع جهات خارجية، طارحةً نفسها كمنصات ومساحات تعبير وإبداع بديلة. وقدّمت نموذجاً عن شريحة من الفنانين ممن يمارسون الاستقواء على آخرين يشعرون بأنّهم أصحاب سلطة طبقية عليهم، فيسمحون لأنفسهم بفعل ما يحلو لهم انطلاقاً من هذا الموقع!
موجة الاستنكارات والتعليقات التي غزت الشبكات الاجتماعية عقب الكشف عمّا جرى، شملت ردود أفعال من مؤسسات وفضاءات ثقافية وأفراد عدّة. في هذا الإطار، أصدر «الصندوق العربي للثقافة والفنون» (آفاق) بياناً أعرب فيه عن تضامنه الكلّي مع فؤاد، مشدّداً على أنّه لم يكن يعرف مسبقاً بالحادثة، ومعلناً أنّ حفلة ميدان سباق الخيل في الذكرى الـ 15 لتأسيسه المقرّرة في 16 تموز (يوليو) المقبل هي «حفلة «آفاق» لا حفلة تنظّمها «معازف» بدعم من «آفاق»»، قبل أن يُعلن عن فضّ الشراكة مع «معازف» فوراً و«إنهاء أي دور لها في تنظيم الحفلة وإقامتها». أما «برزخ» حيث وقعت الحادثة، فنشرت إدارته والعاملون فيه بياناً أكدوا فيه على «دعمهم الكامل وغير المشروط لزميلتهم السابقة»، مجدّدين استعدادهم لاتخاذ كلّ الإجراءات التي تطالب بها فاطمة، ومعلنين أيضاً عن قطع علاقتهم مع «معازف» طالما «لم تحاسب الضالعين في هذه الجريمة والمتستّرين على مرتكبيها». وخُتم البيان: «سنقوم من جانبنا بمراجعة شاملة بهدف تشديد معايير الأمان كشرط أساسي من شروط التعاون مع أي جهة في تنظيم أي نشاط يقام في «برزخ»». من ناحيته، أدان «المورد الثقافي» الفاعلين المباشرين وطالب بمحاسبتهم، معلناً «مقاطعتنا لهم وإقصاءهم من أيّ دعم تقدّمه المؤسسة، كما ندين كلّ محاولات نكران الجريمة والتستّر على الفاعلين». على الضفّة نفسها، أكّدت مبادرة «مِعْزَفْ» الموسيقية ــ الثقافية تضامنها مع فاطمة، داعيةً القطاع الثقافي، مؤسسات وأفراداً، لـ «رفض الاعتداء وإدانته ودعم الناجيات وحماية الضحايا المحتملات».
موجة استنكارات غزت الشبكات الاجتماعية


أما «معازف»، الجهة المعنية مباشرةً بما جرى، فكان لافتاً أنّها استلحقت نفسها بنشر بيان «أوّلي» هزيل، حاولت عبره التملّص من المسؤولية بالتأكيد على أنّ إدارة الفريق الحالي لم تكن على دراية بالأمر، قبل أن تبدّل روايتها في نسخة جديدة من البيان بعد مواجهتها بوابل من الانتقادات، لتعود وتشير إلى أنّ «غالبية» الفريق الحالي تجهل الموضوع وعلمت به للمرّة الأولى بعدما خرجت فاطمة فؤاد عن صمتها! واعتبرت «معازف» أنّه «من مسؤوليتنا ضمان أنّ واقعة كهذه لن تتكرّر أبداً. سنعمل لتحقيق ذلك داخلياً عن طريق التحقيق المستقلّ، وخارجياً من خلال تطبيق سياسات جديدة في الفعاليات التابعة لنا، تضمن أمان وسلامة كلّ الحضور»، موضحةً أنّها من الآن وصاعداً ترفض العمل مع الفنانَيْن اللذَيْن ورد اسماهما في بوست فاطمة.
كلام اعتبره كثيرون «أجوف» يصبّ في خانة «حفظ ماء الوجه»، خصوصاً أنّها ليست المرّة الأولى التي يرد فيها اسم المجلة في حادثة مشابهة، متسائلين عن سبب انتظارها لغاية الآن للتحرّك؟!