يجذب الشاب الخجول الذائب في ثيابه كلما تحدّثت معه فتاةٌ، الأفلام التي يموّلها الغرب. قلما شاهدنا «ذكراً» في أي فيلم من هذا النوع «متقدماً» أو «مباشراً». دائماً تكون الفتاة هي السباقة في كل شيء، في خطوتها إلى الأمام، في التعبير عن إعجابها، في حديثها معه، بينما هو «ساهم»، «خجلان» يشعر بأن حياته «تقتحم»، خصوصاً في حضارةٍ عربية يحبّ الغرب توصيفها بأنّها «ذكورية». منذ المشهد الأوّل في فيلم «مجنون فرح» Une histoire d›amour et de désir (إخراج التونسية ليلى بوزيد ـــ إنتاج تونسي فرنسي ـــ 2021) المطروح على نتفليكس، نجد أننا أمام القصّة المعتادة ذاتها في هذا النوع من الأفلام مع الأبطال والبطلات أنفسهم، لمن يتابع أي فيلم مموّل غربياً ضمن ما يسمّى السينما «البديلة» أو الموجّهة إلى الغرب. وكعادة هذا النوع من الأفلام، يحظى الشريط بالكثير من الاحتفاء والجوائز في المهرجانات العالمية، إذ شارك في «مهرجان كان السينمائي» ضمن تظاهرة «أسبوع النقاد»، و«مهرجان أنغوليم للفيلم الفرنكوفوني»، وحصل على جائزتي أفضل ممثل وجائزة «فالوا» الماسية، وغيرها الكثير من الجوائز.

تحكي القصة حكاية أحمد (سامي الطلبالي) الجزائري الأصل، الذي يعيش في فرنسا، ويدرس الأدب العربي المقارن في جامعة السوربون. هناك يتعرّف إلى فرح (زبيدة بلهجمور) زميلته التونسية. سرعان ما تتطوّر العلاقة بينهما إلى افتتان، خصوصاً مع طلب فرح من أحمد أن يعرّفها إلى باريس التي لا تعرفها. نكتشف أنه هو أيضاً لا يعرف المدينة نظراً إلى إقامته في الضواحي بعيداً عن قلب المدينة. يبدو أحمد متراجعاً دائماً خطوة إلى الخلف. يهرب بنظراته من نظرات فرح، ينظر إلى الأرض بخجلٍ، لا يتحدّث إلا القليل، فيما الفتيات في الفيلم يتقدّمنه شجاعةً بخطوات كثيرة. فرح بدورها لا تخجل من شيء، تمسك كتاباً يتحدّث عن الجنس، فتقرأ أسماء «العضو الذكري» بحسب الكتاب، أمام شابٍ لا تعرفه كثيراً بحماسة بالغة كما لو أنَّ الأمر عادي. اللافت أنَّ أحمد في هذا المشهد تحديداً يوقفها عن الكلام بحجّة أن هذا الكتاب الذي تقرأ منه «ليس أدباً» وينسحب هارباً. وفي مراتٍ قليلة، ينفعل أحمد حين يشاهد فرح تتحدّث مع أحد الشبان، هل كانت تلك غيرة؟ لا أحد يعلم، فالمشهد غير واضح. في الوقت نفسه، نجد الرجال/ الذكور في «مجنون فرح» ـــ وفي مجمل هذا النوع من الأفلام ــــــ هامشيين، فاشلين، عاجزين: فوالد أحمد مثلاً، سلبي، عاجز، وفاشل عن أداء أي أمر كأنما إحضاره العائلة إلى أوروبا/ فرنسا هو إنجازه الأكبر. حتى مهنة الوالد (صحافي) لم تشفع له، بل إنه يقف عاجزاً عن أدائها، فيعتزلها. تقريباً لا شخصية مشرقية إيجابية في الفيلم. المضحك واللافت، أن هوليوود حالياً، تقدّم، عبر شركة مثل «مارفل» (و«ديزني» بحكم أنها تمتلكها)، شخصيات عربية إيجابية للغاية في مسلسلها الحالي والناجح «مس مارفل». أما الأوروبيون ـــ والسينما التي يتحكّمون بها ـــ فلا يزالون مصرّين على تقديم الشاب/ الرجل/ الذكر الشرقي بهذه الطريقة.
يمتلئ «مجنون فرح» بالتفاصيل الإيروتيكية كونه ينهل من كتب التراث الجنسي عند العرب


يمتلئ «مجنون فرح» بالتفاصيل الإيروتيكية (المخرجة تنهل من كتب التراث الجنسي عند العرب) وليس في العلاقة التي تربط البطلين، بل يتعداها إلى تلك المرتبطة بالقصة الأصلية. لكن حتى تلك إيروتيكية غربية: إذ يناقش الفيلم كيف يرى الأدب الغربي ودارسوه تفاصيل الجسد في الشعر العربي. يأخذون مثالاً قصة مجنون ليلى ويستخدمونها شعراً ونثراً في الفيلم. طبعاً لا مشكلة في طرح رؤية السوربون أو أي جامعة فرنسية حول الأدب/ الشعر العربي، لكن ما هي فائدته في فيلم عربي مموّل غربياً؟ في الوقت عينه، تمرر المخرجة الأفكار الغربية ذاتها عن المجتمعات المشرقية: «لا أمل في الحياة هناك»، «الحمد لله أن هناك مجتمعاً مدنياً» على حد تعبير البطلة فرح. إنّه «منطق اليأس» تجاه بلادنا، فيكون الحلّ «أن نهاجر».
أدائياً، أخرجت الفيلم خرّيجة جامعة السوربون وتحديداً كلية الآداب، التونسية ليلى بوزيد، ابنة المخرج التونسي المعروف النوري بوزيد، التي حازت جوائز غربية عدة عن فيلميها «مخبي في كبة» (2012) و«على حلة عيني» (2015). أما لناحية الممثلين، فنجد أنّ أداء الممثلين الرئيسيين جاء متيناً يليق بسمعة الدراما المغاربية التي قدّمت عدداً كبيراً من النجوم المعروفين بدءاً من صوفيا بوتلة، وسعيد الطغماوي، وهند صبري، وظافر العابدين وسواهم. يبذل سامي عوطالبالي وزبيدة بالحاج عمر، جهداً كبيراً لتقديم شخصيتيْهما بطريقة مباشرة مع محاولة إعطائهما الكثير من الواقعية. تظهر بالحاج عمر مقدرة عالية على تقديم صورة الفتاة الضائعة/ التائهة في مدينة جديدة لا تعرف عنها شيئاً. تحاول أن تجد نفسها في عالمٍ مختلفٍ عن عالمها الذي أتت منه. هي أتت من تونس ولا تعرف شيئاً في باريس، لكنها تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تجد مكاناً مناسباً لها. في الوقت نفسه، تحاول أن تقترب أكثر من أحمد من دون أن تبدو ثقيلة، كون أحمد لا يتحرّك أبداً. من جهته، حاول عوطالبالي كثيراً أن يقدم شخصيته بكثير من الجمود كون النص مكتوباً كي تظهر الشخصية بهذه الطريقة.
باختصار، سيحكي النقاد كثيراً عن الفيلم «المبهر»، ورؤية المخرجة «الراقية والخلّاقة»، وعن التفاصيل الكامنة خلف العمل، ذلك أنَّ المموّل المسيطر على سوق الأفلام يريد هذا النوع من الأعمال. هل يستحق الفيلم المشاهدة؟ ربما. هل سينساه الناس بعد ساعة على مشاهدته؟ ربما أيضاً. إنه فيلمٌ موجّه إلى المشاهد الغربي كي يرانا ـــ نحن ــــ كما يحبّ أن يرانا.

Une histoire d›amour et de désir على نتفليكس