حدث تشكيليّ مميّز استضافته أخيراً «غاليري شريف تابت» في بيروت، ضمّ أعمالاً لفنانين من الهند وتونس والأردن وسويسرا، فضلاً عن البلد المضيف لبنان. عشرة فنانين هم دييلي سِنْ بهاتّا، نيفين مطر، كمال أبو حلاوة، علي الزنايدي، سومانا مالاكار، جوزيف فالوغي، رندة دوشادارينيان، عبد الرزاق حمودة وشارل خوري.
شارل خوري ــ «لبنان» (أكريليك على كانفاس ـــ 80 × 100)

يلفتنا للتوّ ما يأتينا من الفنّ الهندي المتميّز بالخطوط والتكوينات والألوان الحارّة التي تقفز تلقائياً إلى العين. هذه لوحات سومانا مالاكار الثلاث تجسّد أحصنةً وسط طبيعة تشكّل الأساطير الهندية خلفيّة لها، وطقوساً محلّية تستدعي اللاوعي من الباطن، والأسلوب يراوح بين الكلاسيكي والتجريدي، فضلاً عن التأثيرات السورياليّة. ألوانها فرحة تزوّد اللوحة الصامتة بما يشبه الغناء والموسيقى، وثمة تكثيف واختزال قويّان. الحصان يحتلّ أماميّة المشهد والمساحة الأوسع، فجماله لا يحتاج إلى فراغات محيطة ولا إلى تزيين، ما يمكن أن يذكّرنا بالرسّام اللبناني الكبير الراحل رفيق شرف الذي رسم أيضاً حصاناً من لحم ودم، نابضاً بالجمال والحركة، من غير إضافات، ومن دون فارس يمتطيه. الحصان وحده جمال خالص.
نموذج آخر في المعرض من الفن الهندي تمثل في لوحات دييلي سِنْ بهاتّا الذي يشدّد على الإيقاعات البصريّة. تمضي لوحاته إلى آفاق بعيدة عبر خليط من الألوان والأشكال، مثل نوتات موسيقية بصريّة. صحيح أن لوحاته تميل إلى التجريد، بيد أنّها مليئة بالزخارف والأشكال السابحة في فضاء كونيّ واسع. التدرّجات اللونيّة تؤدي المعنى وهي مشغولة بدراية وجمال وعمق.
إلى أعمال الفنان التونسي علي الزنايدي، أحد أبرز الفنانين التشكيليين في بلده وخرّيج معهد الفنون الجميلة عام 1975. تتميّز لوحاته بدفء ألوانها وإشراقها، وبالعلامات والرموز، إذ عاش في أحياء تونس العتيقة التي تركت تأثيرها على ملوانته عمارةً ولوناً وضوءاً. يستلهم مضامين لوحاته من المشهد اليومي الواقعي ومن مزاولي الصناعات الحرفيّة، ومن حركة العابرين ووجوههم، مازجاً معالجاته بين التشخيصي والتجريدي، ومعتمداً الألوان الدافئة والباردة معاً.

علي الزنايدي ـــ «بيت ألبير ماركي» (أكريليك على كانفاس ـــ 80 × 61 سنتم)


سومانا مالاكار ـــ «قوة الحصان 2» (أكريليك على كانفاس ــ 90 × 70 سنتم)

أمّا الأردني كمال أبو حلاوة (رئيس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين سابقاً) فتتّسم لوحاته بنفحة تعبيريّة تشي بخبرة تشكيلية مديدة وتمرّس جليّ في استخدام اللون. التجريد لديه وسيلة لإغناء الواقعيّ من التفاصيل والجزئيّات والاكتفاء بالأشكال المفضية إلى الفكرة الجوهريّة في اللوحة. تراكم لونيّ وتركيز على المنظور والعمق.
الخطّاط التونسيّ المعروف عالمياً عبد الرزاق حمودة (مقيم حالياً في سويسرا) من أبرز فنّاني الخطّ والتشكيلات الحروفيّة والرسم بالنقطة في العالم العربي، تعكس أعماله اتجاهاً فكريّاً أو فلسفيّاً بعيداً عن النمطيّة الكلاسيكية الجامدة، متّبعاً أسلوب «نقطة وحرف وكلمة»، ومنطلقاً بالخط المتحرّك غير الجامد، ومستلهماً التراث الشعريّ العربيّ، خصوصاً عمر الخيّام ونزار قباني وأبو القاسم الشابي وأحمد فؤاد نجم وجبران خليل جبران وآخرين. تنشدّ العين تلقائيّاً إلى روح الكلمات التي يخطّها بجمالية آسرة، فتعشق معانيها.
أعمال اللبنانية ــ الأميركية نيفين مطر تلقي على المدينة نظرةً جماليةً هندسيةً عاطفية، ذات ألوان مشبعة، كأنّها تعيد بناء المدينة وبيوتها الشرقيّة الطابع (النوافذ القناطر التي يعلوها الشبك الخشبيّ، وشجر النخيل الذي يزيّن واجهة العمارة القرميديّة...) بعد خراب ودمار نالا منها. ورغم الخطوط الدقيقة التي تنمّ عن حرفة أكاديميّة، إلاّ أنّ «الهندسة» التشكيليّة تنحو لديها إلى مجسّمات معماريّة في مكتب مهندس معماريّ. فالبرودة تطغى مضموناً، وكذلك النزعة الفولكلورية والبورجوازيّة (البيوت تشبه بيوت «سوليدير» المرمّمة التي لا يقطنها إلّا أصحاب الملايين!)، وبالتالي يغدو السؤال: أين الفنّ التشكيليّ وشروطه الإبداعيّة والمضمونيّة في ما تعرضه الرسّامة مطر؟
فيليب فرحات، الذي بدأ رسّاماً غرافيتيّاً على الجدران في الرابعة عشر من عمره ثم تابع دروسه الفنية في الجامعة اللبنانية، يغوص في أعماله في الواقع السياسي المؤثر في هذه المرحلة من عمر الوطن، فيلجأ إلى عناصر ومفردات أسطوريّة كالثور الذي يرمز أساساً إلى القوّة والخصب والفحولة، كي يحوّله إلى رمز للبهيميّة والشرّ، وبالتالي إلى الاستبداد والفساد المستفحلين في مجتمعنا، ولعلّ في ذلك بعض المباشرة في التعبير الفنّي.
البرودة تطغى على أعمال نيفين مطر، وكذلك النزعة الفولكلورية والبورجوازيّة


رندا دوشادارينيان تستقي مواضيع لوحاتها الثلاث (حبر على ورق أو أكريليك) من الطبيعة أو من الأحلام الشرقية اللصيقة بعوالم «ألف ليلة وليلة» (جسد متمايل على أنغام عود وطبلة). لوحاتها تعكس روحاً متفائلة، فرحة، متجسّدة بخطوط دقيقة وشفافة.
من ناحيته، يقدّم الفنان جوزيف فالوغي أعمالاً ثلاثة (زيت وأكريليك) تجريديّة تغلّف المحسوس بالمتخيّل. لوحاته عبارة عن محسوسات بصريّة متعددة الدلالة والشكل، منطوية على ذاكرة وخواطر وانفعالات تملي تكوين اللوحة وألوانها المتماهية بشفافية مع المعاني.
أمّا في لوحات شارل خوري، فثمة امتلاء وكثافة قامات وألوان بين طبيعة وإنسان وحيوان وطقوس ومخيّلة هندسيّة. عناصر كثيرة لا تُفقد اللوحة توازناً في الخطوط والألوان والضوء والظلّ، حتى تكاد الأبعاد تكون منحوتةً في بناء هندسيّ متين وإحساس فطريّ غير متعارض معه.
تلفتنا في هذا المعرض الجماعيّ، من جنسيّات ومذاهب ومشارب فنية متنوّعة، ميزة التنوّع، فلا ثيمة محدّدة، ولا تقنيات أو أساليب متشابهة، بل غنى تشكيليّ يفتح لنا نوافذ على المشهد الفنّي و الثقافيّ المتنوّع عالميّاً.