بعد معرضه الأخير في عام 2010، يعود الفنّان المتعدّد وليد صادق (1966) ليقدم أعماله الجديدة في «غاليري صالح بركات» في بيروت. هو يعود أيضاً إلى اللوحة والألوان، بعد تجارب متعدّدة في الكتابة والفنّ المفاهيميّ والتجهيز. هكذا، أخذ استراحة من مجالات تعبيره الأخرى ذات الطابعين السوسيولوجي والأنتروبولوجيّ، إذ يرى صاحب «أكبر من بيكاسو» أنّ «الكلام لم يعد مجدياً في بلد مزّقته الصراعات ودمّرته»، مقرّراً التعبير هذه المرّة باللون والمادّة، مقدّماً في معرضه الحاليّ مجمل اللوحات التي أنجزها في العامين الفائتين، تحديداً منذ انفجار المرفأ في الرابع من آب (أغسطس) 2020 إلى اليوم.
بدون عنوان (مواد مختلفة على خشب ــــ 20 × 20 سنتم)

أربع وعشرون لوحة من المقاس الصغير مشغولة بتقنيات وموادّ متنوعة، ‏من غير أن يهب معرضه عنواناً. اللوحات الصغيرة عُلّقت في المساحة الواسعة بطريقة متباعدة، وهي تشي بنزعة طفوليّة، بسيطة (لا مبسّطة)، ما يمثّل بذاته سجالاً مع الفنّ المفهوميّ المركّب الذي لن يتخلّى عنه، راغباً فقط في إعادة اللعب بالطينة الأولى.
هي إذن عودة لصادق، الأستاذ المحاضر في «الجامعة اللبنانية الأميركية» في بيروت، إلى اللوحة كمساحة تشكيليّة، صلبة ومرنة في الوقت نفسه، لتجسيد حالات شعوريّة بلا عناوين أو مسمّيات، صغيرة حجماً، على خشب أو معدن أو كرتون، يتكثّف اللون فوقها أو يشفّ ويرقّ. لا ثرثرة سرديّة في اللوحة، بل دلالات ومعانٍ تكمن في الخلفيّة، في التعبير المفتوح على التأويلات والإيحاءات، مثل الموسيقى التي لا تحدّها المعاني ولا تحدّدها. هنا، نحن أمام مقطوعات ونوتات لونيّة تشرّع اللوحة على فضاءات شعرية صامتة. والمنمنمة حجماً هي تعبير عن واقع لا ضخامة أحجام فيه سوى للأزمات في مقابل تضاؤل الحسّ والتفاعل الفنّيين، في ظلّ طغيان الاهتمامات الحياتيّة الصغيرة والمباشرة. المزيج اللونيّ لديه حارٌّ وفاقع، تعويضاً عن تَيْنك الضآلة والضحالة في الواقع. الأحمر والأصفر إذ يحضران، فإنّما على نحو مستفزّ وإلى الحدّ الأقصى.
‏ينتمي وليد صادق إلى الجيل الأوّل من فنّاني مرحلة ما بعد الحرب اللبنانية المشتغلين على الفنون المعاصرة غير المألوفة حينذاك في لبنان، مثل الفن الأدائي (يشمل المحاضرات)، والتجهيز، والفيديو، والرقص المعاصر. عُرضت أعمال هذا الجيل ضمن فعاليات خاصة بالتجريب كـ «مهرجان أيلول» (1997 -2001) الذي شارك صادق في تأسيسه، جاذباً فعاليات ثقافية أجنبيّة، ثم «أشكال ألوان» الذي تحوّل مع السنين إلى مؤسّسة قائمة بذاتها للفنون المعاصرة. أقام صادق في مسيرته المتنوّعة عدداً من المعارض المنفردة، وشارك في أخرى جماعية، هنا وفي الخارج، تميّزت لناحيتي شكل التقديم وتحويل المتلقّي إلى مشارك. مع العلم أنّ مرتكزه التعبيريّ الأساسيّ يبقى الكتابة التي يحسبها ممارسة فنية لا تقلّ شأناً عن باقي الفنون، منجزاً منذ التسعينيّات إلى اليوم عشرات المنشورات والكتب النظريّة ذات الأساليب المختلفة، تنطوي على نقد للأفكار والمفاهيم التي نهضت عليها أفكار «السلم الأهلي» المهيمنة منذ مرحلة ما بعد الحرب، إن في الثقافة العامة أو في الفنون، مثل نظريّات «التروما» و«العدالة الانتقاليّة» و«الفقدان» و«الحداد» و«إيديولوجيا الأمل والمستقبل»، و«الحاضر الموقّت» و«مفهوم الضحية»… فتلك السجالات والمفاهيم أسهمت في توجيه خطاب الفن المعاصر وأتت بتأريخ بديل للإنتاج الثقافي في لبنان.
مقطوعات ونوتات لونيّة تشرّع اللوحة على فضاءات شعرية صامتة


في بداياتها، ‏بحثت أعمال وليد صادق في الموروثات العائليّة من الحرب الأهلية، ثمّ انصبّ اهتمامه على نشر نصوص نظريّة ترمي إلى إبراز تعقيدات الصراع المدنيّ المستمّر في الفترات الزمنيّة التي شهدت استقراراً نسبيّاً في الاجتماع والاقتصاد. وفي الفترة الممتدّة بين عامي 2006 و2016، طرحت أعماله المكتوبة نظريّة موجّهة إلى مجتمع ما بعد الحرب غير الراغب في استئناف الحياة ‏المعياريّة. خلال ذاك العقد من الزمن، كانت أعماله الفنّية تسعى إلى تعبير شاعريّ يحاكي مجتمعاً محكوماً بفكرة الحرب.

* «وليد صادق: لوحات 2020 ـــ 2022»: حتى نهاية أيلول ــ «غاليري صالح بركات» (كليمنصو) ـ للاستعلام: 01/345213