غيَّب الموت الشاعر الكبير والصديق العزيز محمد علي شمس الدين. للموت حضور في شعر أبي عليٍّ ونثره. في «حلقات العزلة» كتابه الممتع والمؤنس والمضيء، طرح هذا السؤال الوجودي والأزلي: «ماذا يفعل الإنسان في مواجهة مقبرة كبيرة هي التاريخ يرفرف فوقها علم بشكل غراب اسمه الموت؟». في هذه القراءة، التي تحتملها مقالة قصيرة، في سيرته وشعره نحاول أن نتعرف إليه وإلى شعره، وأن نتبيَّن الإجابة عن هذا السؤال. محمد علي شمس الدين (1942 – 11/9/2022) شاعر لبناني كبير، وناقد نافذ الرؤية، وباحث وناشط ثقافي. ولد في قرية بيت ياحون. أقام في بيروت، وكان يعود إلى قرية عربصاليم، بين وقتٍ وآخر .

ينتمي إلى أسرة دينية وشعرية، تقتني مكتبة مملوءة بكتب التراث، وتُعقد في بيوتها مجالس أدبية يُقرأ فيها الشعر، ويُنقد، وتدور أحاديث السمر مع كؤوس الشاي.
تلقَّى العلم في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، في قريته بيت ياحون، والثانوية في المدرسة النموذجية الثانوية (فرن الشباك). نال إجازة في الأدب العربي، وإجازة في التاريخ، والماجستير في التاريخ. موضوع البحث فيها «الإصلاح الهادئ عند العلامة المصلح السيد محسن الأمين» عام 1981، إلى جانب دكتوراه دولة في التاريخ ، عام 1977، موضوع البحث فيها «الحدث التاريخي في عصر بني أمية». درَّس تاريخ الفن في معهد التعليم العالي، وعمل مفتشاً في مؤسسة الضمان الصحي والاجتماعي اللبنانية، وترقَّى إلى أن تولَّى منصب مدير التفتيش، في هذه المؤسسة، قبل أن يتقاعد عام 2006.
قرأ لأبي العلاء المعري أوَّل ما قرأ، وقلَّده بأشعار نظمها، وهو في الثانية عشرة من عمره. أولى قصائده التي نُشرت قصيدة «ارتعاشات اللحظة الأخيرة» نشرت عام 1973.
أبدى نشاطاً ملحوظاً في عضوية عدد من المؤسسات الثقافية، وشارك في الكثير من المؤتمرات والملتقيات الشعرية والنقدية والفكرية، في لبنان والوطن العربي، وبعض العواصم العالمية.
تُرجم معظم شعره إلى الإسبانية ولغات عالمية أخرى. له مجموعات شعرية كثيرة، جُمعت في أعمال كاملة، وقصص وشعر للأطفال ودراسات ومقالات أدبية.
نال «جائزة العويس»، دورة 2010- 2011، و«جائزة الشارقة للشعر العربي» عام 2015. محمد علي شمس الدين إنسان دمث، لطيف المعشر، ودود ومتواضع، صلب يتشبَّث بكل موقف يعتقد بصوابه...
يقدِّم محمد علي شمس الدين نفسه لقرائه، وما يقوله في هذا الشأن: «في مكان مفتوح للشمس والغبار ومساحات التبغ الشاسعة الصفراء، كنت الولد البكر لأبويّ، وأنا ابن الماَذن الجنوبية والأجراس والتراب والحجارة والصخور... ثم جرَّني المتنبي من يدي وأبو العلاء المعري وبدر شاكر السياب ورامبو وأنطونيو وماشادو وديك الجن الحمصي... في تاريخنا تجارب غنية، نحن مصدر النبوَّة والشعر في التاريخ الإنساني...».
يفيد هذا التقديم للذات أنَّ تجربته الشعرية التي تملي نصَّه الشعري الخاص الجديد، تتكوَّن من التراثين العربي والإنساني، ومن عيش الحياة اليومية، فيجدِّد وهو متصل بالعيش: ماضيه وحاضره، ورؤى مستقبله. هذا ما تفيده قراءة شعره، فهو، كما تفيد هذه القراءة، شاعر حديث يتصل، من نحوٍ أول، بالتراث العربي/ جذر الأنا، وبالإنجاز الغربي الوافد/ إنجاز الآخر، ويصدر عن هذين المكوِّنين، وعن الحياة/ الوجد بها، أي يتصل بالأنا حاضراً وماضياً وبالآخر، وينفصل، من نحوٍ ثانٍ، فيصدر عن هذا كله، من دون أن يكونه، بمعنى أن يكون شعره ولادة الجديد كأيِّ ولادة حقيقية تصدر عن والدين، ولا تكون إيَّاهما.
وجدُه بالحياة هو وجدٌ بمرارات العيش، وخصوصاً مرارات الهم الجنوبي المتمثلة بقوله: «فلتفتح، يا آذار، شبابيك التيه/ لي طفل يبحث عن لعبته في قبر أبيه»، فكم من شبابيك تيه فُتحت، وتُفتح في وطننا العربي الكبير، وكم من أطفال يبحثون عن لعبهم في قبور أمهاتهم وآبائهم، وكم من رجال ونساء يبحثون عن لقمة العيش في كلِّ مكان فلا يجدونها، بل يجدون الأدهى من المرارات التي تطلع بها شمس كل يوم، في هذا الليل الآتي في كل نهار.
يصدر، في شعره، بدءاً بهذه المرارات، ووصولاً إلى المقاومة، إلى قمر الجنوب، المتمثل في قوله: «قمر الجنوب الذي استدار، وصار يحوم حول الشمس المرَّة، ويحرق أشواك حمالة الحطب». هذا النسيج الشعري المتشكل من رموز طبيعية وتاريخية إسلامية يرسم صورة شعرية للمقاومة كاشفة، فهي تُجدِّد، في هذا العصر، مقاومة «حمالة الحطب» التي لا تنفك تتجدَّد في كل حين من الزمن. وهي، أي «حمالة الحطب» في زمننا هذا، تحمل أشواكها/ مستوطنيها وترميهم في بلادنا، ويكون على القمر الذي يستدير جنوباً أن يضيء دروب سالكي طريق الحق وإن قل سالكوها، من دون أن يستوحشوا، عملاً بقول إمام المتقين.
تتسع هذه المعاناة لتصبح معاناة إنسانية، فيكون الجنوب اللبناني رمزاً لمعاناة المقهورين/ المقاومين في كل جنوبٍ في العالم...
عبَّر شمس الدين عن هذه المعاناة الإنسانية في شعره، وفي نثره. ففي كتاب «الطواف»، وهو سيرة شخصية وشعرية، كانت هذه المعاناة طوافاً ذا قدسية، يرقى إلى مستوى العبادة، وينطق برؤية تنتمي إلى «أيوب الصبر والرجاء»، وليس إلى «سيزيف العبث والخواء». وهي لهذا تتيح للرمادي أن يتجلى أفقاً أخضر، إذا واصل طوافه، وحقق إنجازه، وتتيح لـ «نرجسة النار»، والشاعر يرى، في قصيدة «ميم يحرث في الآبار، أنه هو هذه النرجسة، أن تتوهج زهراً وعبقاً، ولا تموت، وهي في قلب اشتعال اللهب، فيتلوَّن شعره بنغمة حزن عميق لا تخفى، هو حزن الشجن العربي التاريخي، وحزن التعب الرائي إلى بوح نرجسة النار، فيكون الرائي مثل جبل «الريحان» الذي «كانت أطراف عمامته تتخافق مثل مسيح الريح، وتحملها عنقاء النهر إلى الوادي».
هوذا حزننا على فقدك، أيها الرائي والكاشف الكبير، وان كان الموت قاهراً، فالشعر، وهو «جنون القلب»، يتدخل ضد الموت، ويكون معراج الخلود، في فعل يواجه عبث الحياة المتوَّج بالموت. هذه هي إجابتك عن السؤال الوجودي الأزلي، تمثلت في إبداعك الذي لا يموت، وإن مات قائله، كما قال دعبل الخزاعي في قديم الزمان.
تتمثل هذه الرؤية في شعر غنيٍّ بالصور والرموز والأقنعة والأسئلة الفلسفية والوجودية. هذا هو الشعر الحقيقي، كما رأى المستشرق الإسباني ماتينيز فيتانيز عندما قال إنّ «شعر محمد علي شمس الدين يعدُّ المثال الواضح لما هو جوهري للشعر الحقيقي: إيقاع الاتصال والتجديد»