يرسم كاميران خليل (1986) «أوهامه» ويعلّقها في غاليري Mission Art (مار مخايل ـ بيروت). لوحات بالزيت والفحم تشي بالتقلّبات النفسيّة التي يختبرها الفنّان، ورؤيته إلى أنّنا نعيش في عالم محكوم بالعبث. حتّى الجسد يمثل في لوحاته مثولاً «موهوماً»، صادماً غالباً، فهو إمّا مكبّل أو محزّم بأشرطة ملوّنة تملأ فضاء اللوحة. يتبنّى رمزيّة القردة الثلاثة المشهورة «لا أرى شيئاً لا أسمع شيئاً لا أتكلّم شيئاً»، غامزاً إلى بلد ممنوع عليه (علينا) فيه أن نرى أو نسمع أو ننطق بشيء. للجانب التفسيريّ دلالاته، التي قد تكون مقفلة، ومثله جانب الغموض واللغز في الوقوف الصامت لشخوصه التي يتبدّل ما تبغي الإيحاء به تبعاً للمشاعر. غموض يحاكي غموض النصّ الشعريّ المغلق، والتكرار هنا يشبه الإيقاع الشعري، أي بلا رتابة أو ترداد للمعنى.
من دون عنوان (زيت على قماش ــــ 200 × 100 سنتم ـــ 2022)

العزلة في لوحات كاميران مفتوحة على الغنى التعبيري. الصمت لديه ناطق، غنيّ المعاني، بواسطة التكوين والفكرة واللون واللباس. شخوصه تنتظر «غودو» الذي لا يأتي، وتماثل الوضعيّات كأنّه لتكوين قصيدة بصريّة واحدة، ثيمة طاغية، تفضي إلى نقاء شعريّ جارح، مؤلم في إشعاره بالعزلة وفي إرساله الوفير من إشاراتها القاتلة. شخوصٌ محزّمة بالأشرطة التي تمنعها من حريّة الحركة والفعل ضمن فضاء ضبابيّ حيناً، مائل إلى الزرقة التي ترمز إلى الحزن (بلوز) حيناً آخر. أمّا مساحة التكوين، فذات عمق وبعد، فللفراغ المحيط دور في تشكيل الحالة النفسية، غير متهيّب المزج بين التدرّجات الرماديّة والألوان الصارخة.
ثيمة خليل الأساسيّة هي الجسد، إذ يجتهد في تقديمه بوضعيّات صادمة، ضمن أطر مختلفة، بيد أنّها كلّها تدلّ بوضوح على أحوال العزلة والعجز و الانكفاء. تبدو لنا تماثيل (مانوكان) بلا نبض، بلا حياة، أدنى إلى أشباه كائنات إنسانية منها إلى بشر من لحم ودم. مخيّلة الرسّام خصبة، خلّاقة، تنشد صدقاً واختلافاً وتعبيراً مغايراً للسائد والمألوف. الملامح الغامضة كافية وحدها لدفعنا إلى التأمّل في ما عساها تفكّر هذه الشخوص وبمَ تريد الإفصاح عنه وإيصاله: هل هو الخوف، القلق، السأم، العجز… أم ماذا؟ باب التأويل والافتراض مشرع تماماً إزاء لوحات كاميران خليل الجميل والمقلق والفريد. هشاشة كينونتنا وضعفها وعزلتها تفصح عنها شخوص هذا المعرض على طريقة «القردة الذكية» التي لا تريد أن ترى أو تسمع شيئاً أو تنطق به. هي المشاعر المكتومة، والحواس المعطّلة أو الملجومة، والناظر إليها كأنّه يغدو في حال من الاستلاب حيال الأسئلة الصعبة التي تشبه أسئلة الوجود نفسها المتّصلة بالعزلة والعبث والموت والفناء. قد يراودنا أمام اللوحات أنّنا حيال أطروحة فلسفيّة رسماً وتشكيلاً. كيف لا نستشعر ذلك ونحن في مواجهة أحياء كأنّهم أموات، كائنات مستسلمة لقهر الواقع واستبداده وقوّته التي لا تردّ. رغم القضايا الوجودية الكبرى التي يعالجها كاميران خليل في لوحاته القويّة والمستفزّة، مقترباً أحياناً من المناخات الأسطوريّة، إلّا أنّه يسعى في الوقت عينه إلى «مسرحةٍ» ما للوحاته التي تتوالى فيها مشهديّات الموت والدمار والجثث المبعثرة والصرخات والتأوّهات، ونادراً ما نشعر بطيف خفيف من الأمل يوحيه اللون الأبيض الذي قد يرمز إلى الموت (الكفن) والعدم أيضاً. لا ندري تماماً وعلى وجه التحديد. الحالات هنا تراجيديّة بامتياز، تنتمي إلى بلد منكوب، أو منطقة عربيّة منكوبة بأسرها، فما الفرق بين أن يكون كاميران فناناً سورياً يعبّر باللوحة عن مأساة بلده، أو أن يكون لبنانيّاً أو عراقيّاً أو فلسطينيّاً؟ أليس وجه المأساة واحداً في أوطاننا المنكوبة الحزينة؟
يقف كاميران خليل في حالة ذهول ويوقفنا معه، حيال الموت والعبث والعجز والعدم والحرّية المقيّدة في أوطاننا المغرقة في الهلاك والمآسي. معرض جدير بالاكتشاف والإعجاب والتأمّل في مفردات التراجيديا الإنسانيّة.

* «وهم»: حتى 23 أيلول ـــــ غاليري Mission Art (مار مخايل ـ بيروت) ـ للاستعلام: 03/833899