ولأن الصورة تمارس الفعل وتحثّ على رد الفعل، فإنّ صورة الشعراوي تمنح نفسها باطمئنان للتأمل في وضع مماثل. بالتأكيد، أصبحت عيوننا غير عرفانية أو غير متبصّرة، بسبب تشبّعنا البصري من الصور. لكن تأمل صورة الشعراوي الملصقة على شباك الميكروباص، لا تقول شيئاً سوى: «لماذا صورة الشعراوي موجودة على شباك الميكروباص؟». في كتابه «حياة الصورة وموتها»، يقول الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه (1940) إنّ لولادة الصورة علاقةً وطيدة بالموت. كلما انمحى الموت من الحياة الاجتماعية، كلما غدت الصورة أقلّ حيويةً، وكلما غدت حاجتنا للصورة أقلّ مصيرية. لم يكن الشعراوي أول من تم استخدام صورته في غير موضعها. غيفارا الذي اعتبر محبّوه أنه قتل مرتين، مرة حين قتل جسدياً، ومرة حين طُبعت صورته على أشياء لا تخص ما قام به مثل التيشيرتات والملابس الداخلية... غيفارا في المرة الثانية قُتل عبر ابتذاله. في ظاهرة استخدام صورة الشعراوي على نوافذ الميكروباصات، يراودنا سؤال: هل يمكن أن يموت الشعراوي مرتين بسبب هذا الفعل؟ يرى بعضهم أنّ الشعراوي تحوّل إلى أيقونة إسلامية سدّت فراغاً كبيراً. ذاك أنه لا يمكن استخدام صورة ـــ الآن ــــ تصوّر نبياً أو حتى ملاكاً ليعبّر المسلم عن دينه في بيته أو في الأكسسوارات التي يرتديها كما في المسيحية.
يخبرنا ريجيس دوبريه إنّه يُفترض أن تكون صورة الشخص هي جانبه الأفضل، أناه المحصنة والمحفوظة في مكان آمن، مثلما كان يحدث للملوك في فرنسا بعد موتهم، نظراً إلى أنّ أي جثة لن تتحمل البقاء لأربعين يوماً من دون أن تتعفن، فكان التمثال يقوم بعمل الملك الهالك بدلاً عنه. في النسخة، هناك أكثر ما يوجد في الأصل في هذه اللحظة.
وبما أنّ صورة الشعراوي تعبّر عن الدين الإسلامي الشعبي المناسب للجميع، ولأن معظم السائقين في اللحظة الحالية حضروا برنامج «دروس الشعراوي» الذي كان يعرض في نهاية السبعينيات على القنوات الفضائية، وشاهدوا أيضاً المسلسل الذي يحكي قصة حياته وكفاحه ونضاله الديني، ولو لم ينصتوا بشكل كامل لشرح القرآن، أو لم يهتموا سوى بالاستمتاع بمشاهدة مسلسل ديني، لكنهم في قرارة أنفسهم يرونه عالماً دينياً جليلاً. بالتأكيد، سيكون مناسباً أن تلصق صورته/ نسخته على الميكروباص لإخبار الآخرين بأنّ السائق «مسلم».
يسمّي عالم الاجتماع سيد عويس ظاهرة الكتابة على الميكروباصات بـ «الجهاز الإعلامي الشعبي»
مع ذلك، طريقة وجود صورة الشعراوي على الميكروباصات هي الطريقة التي لم يحسبها الشعراوي أثناء حياته: أن يمنح نفسه لنظر أولئك الذين يرونه ولا يفكرون فيه، أو بمعنى أدق في أفكاره أو قناعته، لأن الشخص الذي يقع فريسة للصور، ليس معاصراً للشخص الذي يمارس استدلالاته عليها. ما يفعله سائقو الميكروباصات من أجل التعبير عن إسلامهم، يجعلنا ندرك أنّ الصورة خاصية الإنسان وأول أفعاله. يقول ريجيس دوبريه بأنّ ثمة استمراراً تطورياً بين محور الصورة المتعددة الأبعاد وبين الكتابة الخطية. لقد كانت الصورة وسيلتنا الأولى في إرسال المعلومات. والعقل الكتابي قد انحدر تدريجاً من العقل الأيقوني. وبما أن الخرافات سبقت العلم، والملاحم سبقت المعادلات الرياضية، فإن الفعل التصويري أقدم من الحرف المخطوط بعشرات آلاف السنين.
التعبير الصامت عند سائقين الميكروباصات أمر مهم يدفعهم إلى التوازن، خصوصاً أنهم من الفئات المقهورة في المجتمع. أيضاً، أي سائق يعتبر عربته بشكل لا واع جزءاً من كينونته التي يمكن من خلالها تمرير ما يود قوله. يظهر ذلك في روايته «الخلود» حين يحكي الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن شاب يعتلي «موتوسيكل» يصدر صوتاً جنونياً أفزع البطلة. حلّل كونديرا هذا الفعل بأنّ هذا الصوت الفج هو صوت السائق الداخلي المقهور أو ما يسمّى «الإيغو»... صوته الذي لا يستطيع أن يعبّر عنه، فاستبدله بصوت آلة لا يمكن إخراسها.
وما يمكن أن ندركه من خلال ظاهرة وضع صورة الشيخ محمد متولي الشعراوي على نوافذ الميكروباصات أن السائقين يتبنون أي شيء له صوت يتم احترامه أو يجبر الآخرين على احترامه، سواء كان هذا الشيء على هيئة عبارة مكتوبة أو ملصق أو أغنية شعبية فجة وصاخبة، وأنهم سيضيفون هذا الشيء للميكروباص قبل أن يشق طريقه على الأسفلت، ليعبر عن أناتهم المقهورة من دون أن يتكلموا بالفعل.