القاهرة | ظهرت الوثنية مع ظهور الكتابة وانمحت مع ظهور المطبعة. حدث هذا مع الميكروباصات في مصر أيضاً. لا أحد يعلم متى بدأت الكتابة على الميكروباصات، لكن كتابة العبارات على أي عربة مخصّصة لتوصيل الأفراد موجودة منذ عربات الكارو. عبارات مثل «يا رب سترك» للنجاة من أهوال الطريق أو آية من القرآن، أو من الكتاب المقدس للتبرّك أو لدرء الحسد. وفي الكثير من الأحيان، كانت العبارة المكتوبة تتخذ شكل حكمة عنيفة لتحذير عدوّ وهمي أو كوبليه محرَّف من أغنية أو حديث شريف لإظهار القدرة على التلاعب بالكلمات والمقدسات، كنايةً عن الشجاعة. وكما ظهرت المطبعة مع التطور، ظهرت الملصقات/ الستيكرز بدلاً من استخدام الكتابة بالأصباغ والأقلام الملونة، أصبح الملصق بديلاً للكتابة باليد، واتخذ شكلين: ملصق غير مصوّر على شكل آية قرآنية أو حكمة. والشكل الآخر على هيئة صورة معدلة بالفوتوشوب تظهر فيها عبارة مكتوبة وفي خلفيتها منظر طبيعي. مع التطور أيضاً، دخلت الصورة الفوتوغرافية عالم سائقي الميكروباص. داخل الميكروباص، يمكن أن تجد صورة لعائلة السائق أو لطفله. في هذه اللحظة، ندرك أننا لم ندخل فقط عربة مهمتها توصيلنا إلى مكان ما، إنما نحن داخل الحقيبة الشخصية لهذا السائق. ذلك أنّ أي سائق ميكروباص يتعامل مع سيارته على أنّها امتداد لجسمه. كتف ثالث يعلّق عليه حروبه القديمة أو أفكاره وأوجاعه، يخبر من خلالها العالم بقصته من دون أن يتكلم. هذا ما سمّاه عالم الاجتماع سيد عويس (1903 ـــــ 1988) هتاف الصامتين. يسمّي عويس ظاهرة الكتابة على الميكروباصات بـ «الجهاز الإعلامي الشعبي» لأنها تعكس ليس فقط الكثير من المناخ الاجتماعي من مخاوف وأفكار وطموح، إنما العناصر الثقافية غير المادية أيضاً، وتعلن عنها أينما تسير. كل هذه الأشكال من التعبير، عند سائقي الميكروباص ما زالت مستمرة. لكن منذ سنوات قليلة ـــ وفجأة ــــ بدأت صورة الشيخ محمد متولي الشعراوي (1911 ـــــ 1998) تظهر كبديل للملصق وللكتابة. أحياناً يظهر ثلاثتهم على الميكروباص. لكن بالتأكيد تلفت نظرنا صورة الشعراوي المختارة بشكل مكرر، كأنّ لا صورة غيرها التقطت له. يظهر الشعراوي في الصورة محدّقاً بالكاميرا بابتسامة تظهر فيها أسنانه، بينما يعتمر طاقية بيضاء وعباءة زرقاء تفصل بين خلفية الصورة البيضاء والجلباب الأبيض أسفل العباءة، بينما وضعه يخبرنا بأنه كان متكئاً على شيء أثناء التقاط الصورة في الاستديو.
ولأن الصورة تمارس الفعل وتحثّ على رد الفعل، فإنّ صورة الشعراوي تمنح نفسها باطمئنان للتأمل في وضع مماثل. بالتأكيد، أصبحت عيوننا غير عرفانية أو غير متبصّرة، بسبب تشبّعنا البصري من الصور. لكن تأمل صورة الشعراوي الملصقة على شباك الميكروباص، لا تقول شيئاً سوى: «لماذا صورة الشعراوي موجودة على شباك الميكروباص؟». في كتابه «حياة الصورة وموتها»، يقول الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه (1940) إنّ لولادة الصورة علاقةً وطيدة بالموت. كلما انمحى الموت من الحياة الاجتماعية، كلما غدت الصورة أقلّ حيويةً، وكلما غدت حاجتنا للصورة أقلّ مصيرية. لم يكن الشعراوي أول من تم استخدام صورته في غير موضعها. غيفارا الذي اعتبر محبّوه أنه قتل مرتين، مرة حين قتل جسدياً، ومرة حين طُبعت صورته على أشياء لا تخص ما قام به مثل التيشيرتات والملابس الداخلية... غيفارا في المرة الثانية قُتل عبر ابتذاله. في ظاهرة استخدام صورة الشعراوي على نوافذ الميكروباصات، يراودنا سؤال: هل يمكن أن يموت الشعراوي مرتين بسبب هذا الفعل؟ يرى بعضهم أنّ الشعراوي تحوّل إلى أيقونة إسلامية سدّت فراغاً كبيراً. ذاك أنه لا يمكن استخدام صورة ـــ الآن ــــ تصوّر نبياً أو حتى ملاكاً ليعبّر المسلم عن دينه في بيته أو في الأكسسوارات التي يرتديها كما في المسيحية.
يخبرنا ريجيس دوبريه إنّه يُفترض أن تكون صورة الشخص هي جانبه الأفضل، أناه المحصنة والمحفوظة في مكان آمن، مثلما كان يحدث للملوك في فرنسا بعد موتهم، نظراً إلى أنّ أي جثة لن تتحمل البقاء لأربعين يوماً من دون أن تتعفن، فكان التمثال يقوم بعمل الملك الهالك بدلاً عنه. في النسخة، هناك أكثر ما يوجد في الأصل في هذه اللحظة.
وبما أنّ صورة الشعراوي تعبّر عن الدين الإسلامي الشعبي المناسب للجميع، ولأن معظم السائقين في اللحظة الحالية حضروا برنامج «دروس الشعراوي» الذي كان يعرض في نهاية السبعينيات على القنوات الفضائية، وشاهدوا أيضاً المسلسل الذي يحكي قصة حياته وكفاحه ونضاله الديني، ولو لم ينصتوا بشكل كامل لشرح القرآن، أو لم يهتموا سوى بالاستمتاع بمشاهدة مسلسل ديني، لكنهم في قرارة أنفسهم يرونه عالماً دينياً جليلاً. بالتأكيد، سيكون مناسباً أن تلصق صورته/ نسخته على الميكروباص لإخبار الآخرين بأنّ السائق «مسلم».
يسمّي عالم الاجتماع سيد عويس ظاهرة الكتابة على الميكروباصات بـ «الجهاز الإعلامي الشعبي»

مع ذلك، طريقة وجود صورة الشعراوي على الميكروباصات هي الطريقة التي لم يحسبها الشعراوي أثناء حياته: أن يمنح نفسه لنظر أولئك الذين يرونه ولا يفكرون فيه، أو بمعنى أدق في أفكاره أو قناعته، لأن الشخص الذي يقع فريسة للصور، ليس معاصراً للشخص الذي يمارس استدلالاته عليها. ما يفعله سائقو الميكروباصات من أجل التعبير عن إسلامهم، يجعلنا ندرك أنّ الصورة خاصية الإنسان وأول أفعاله. يقول ريجيس دوبريه بأنّ ثمة استمراراً تطورياً بين محور الصورة المتعددة الأبعاد وبين الكتابة الخطية. لقد كانت الصورة وسيلتنا الأولى في إرسال المعلومات. والعقل الكتابي قد انحدر تدريجاً من العقل الأيقوني. وبما أن الخرافات سبقت العلم، والملاحم سبقت المعادلات الرياضية، فإن الفعل التصويري أقدم من الحرف المخطوط بعشرات آلاف السنين.
التعبير الصامت عند سائقين الميكروباصات أمر مهم يدفعهم إلى التوازن، خصوصاً أنهم من الفئات المقهورة في المجتمع. أيضاً، أي سائق يعتبر عربته بشكل لا واع جزءاً من كينونته التي يمكن من خلالها تمرير ما يود قوله. يظهر ذلك في روايته «الخلود» حين يحكي الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن شاب يعتلي «موتوسيكل» يصدر صوتاً جنونياً أفزع البطلة. حلّل كونديرا هذا الفعل بأنّ هذا الصوت الفج هو صوت السائق الداخلي المقهور أو ما يسمّى «الإيغو»... صوته الذي لا يستطيع أن يعبّر عنه، فاستبدله بصوت آلة لا يمكن إخراسها.
وما يمكن أن ندركه من خلال ظاهرة وضع صورة الشيخ محمد متولي الشعراوي على نوافذ الميكروباصات أن السائقين يتبنون أي شيء له صوت يتم احترامه أو يجبر الآخرين على احترامه، سواء كان هذا الشيء على هيئة عبارة مكتوبة أو ملصق أو أغنية شعبية فجة وصاخبة، وأنهم سيضيفون هذا الشيء للميكروباص قبل أن يشق طريقه على الأسفلت، ليعبر عن أناتهم المقهورة من دون أن يتكلموا بالفعل.