أعرف الشاعر والمفكر نعيم تلحوق منذ أول زيارة لي لمبنى وزارة الثقافة القريبة من فندق «البريستول» (نُقلت لاحقاً إلى الأونيسكو) حين بدأت النشر لدى «دار نلسن». ثم تكرّرت الزيارات وكانت أهمها عندما رشحني نعيم لتمثيل لبنان في مؤتمر «تشانغهاي الشعري» في الصين 2009. منذ المقابلة الأولى وأنا أحاول أن أعرفه أكثر وأفضل. زئبقي الشخصية هو الشاعر تلحوق، تحاول قراءة تفاصيل وجهه، فتكتشف أن له وجوهاً، وأنه يقرأ من كتب متعددة في الوقت نفسه، وأن تلسكوب عينيه وعقله أكبر بكثير من محادثه. اكتشفت في البداية فيه شيئاً من الحذر وانتقاء العبارات والميل إلى المزاح والحماية الذاتية. يضحك الرجل ضحكة حقيقية للنكتة الحقيقية. يشرد للفكرة المتفتّحة الجديدة والسيجارة في يده. بفضل ثقته بي (كان للصديق الناشر سليمان بختي دور في هذا المجال) طرت إلى الصين وأنا غير مصدّق بأنني سوف أزور ذلك البلد البعيد عابراً مطبّات هوائية، حيث الناس تعمل لساعات أكثر من حبّات الأرز التي تأكلها. لكنني نسيت أن أزور سور الصين العظيم... ربما لأنني لا أحب الأسوار العالية بطبعي، خاصة تلك التي تعلو في وعي البشر وتحجب عنهم وضوح الرؤية.تكررت زياراتي له في مكتبه كل سنة أنشر فيها رواية، فيكون بيننا فنجان قهوة ودردشة. بقي نعيم قريباً من دائرة الغموض بالنسبة إليّ. كنت ألمحه مساءً في مقاهي شارع الحمراء وهو في نقاش حام أو مستمع مع مجموعة من أهل الثقافة، خاصة في مقهى «الروسا» (الكوستا) سابقاً. فأقول: «حامل السلم بالعرض». مناسبتان قربتاني منه أكثر: ندوة شعرية في «معرض الكتاب العربي» في «البيال»، وفي حفل تكريم للشيخ نعيم في مكتبة الشويفات قبل انتشار جائحة كورونا. وكان لي حظ ترجمة أحد كتبه الشعرية إلى الإنكليزية على راحتي ومن دون ضغط زمني. خلال الترجمة، تكشّفت أمامي مفاتيح كثيرة لشخصية الشاعر نعيم، وتمكنت من تفكيك بعض رموزها المتولدة من الفقدان والألم والمعاناة ومكابدة المعنى. لكن شخصية الشاعر ومكوناتها كاملة مكتملة بقيت عصيّة عليّ. بقيت أطرح السؤال كلما التقيته مصادفة: هل يعني نعيم فعلاً كل ما يقوله؟ أم أنه في حالة نشوة الشعر والاكتشاف والإحساس بالخصوصية والنخبويّة، أو أنه مثقف آخر يستمتع بالابتعاد عن أرض الواقع؟


في كتابه الجديد «أرض الزئبق» (دار فواصل ــ 2022)، تكشّف أمامي نعيم تلحوق من الألف إلى الياء. لوحة «مسك الختام» خطتها ريشة عقله. خفت عليه وعلى نفسي! الكتاب الاستثنائي الخارج إلى العلن في زمن جد استثنائي، يُقرأ ببساطة مرة واثنتين وثلاثاً وربما أكثر. كان عليّ أن أتحسس رأسي وجسدي وأعيد ترتيب أفكاري بعد الانتهاء من هذا الكتاب الذي استغرقت كتابته خمس سنوات من عمر الشاعر. وهو «عمر لا يستحقه» حسب تعبيره.
الكتاب هو جردة حساب وربما محاكمة... والقاضي والمتهم هما الشخص نفسه. فيه من حميميات بيت الأهل (اعتقال الأب وضربه أمام عينيه وأمه التي تعرف كيف تقرب الأبعدين وتبعد الأقربين). حين يكتب شاعر كنعيم تلحوق نثراً، فهو يكتب شعراً أعمق وأبلغ. هو في صراع ومعاركة مع المعنى الكبير والكبير والعميق الذي نبذره، جارح كلامه ومباشر ولا مزيد من الوقت لإضاعته: «قل لي بربك من أنت؟ وما الجدوى منك؟» فهو قد وعى دوره الذي حلّ من أجله في هذا العالم... «لتمزيق الحجب»، حيث الثبات وهم، و«الدوائر لعبة كونية». يطرح نعيم ويقارب مواضيع وجودية إيمانية. فالله عنده في تغيّر دائم «والوجود هو الحب وبغيره لا نور في العالم». شاعرنا نادم ومتعاطف مع أبيه: «احتجت عمراً كثيراً بعدها وأنا أبكي لأنه لم يصفعني سوى صفعة واحدة». ولا يتردد في وصف أمه «باللبوة الشرسة التي تتشبث بأولادها للدفاع عنهم في أزقة المطارح الخطرة، وهي تخبّئ في داخلها سرطان الأقارب».
يجرؤ نعيم ويلمح لحالة الوعي لدى الولد الريفي في مجتمع أقلوي بطريقة ذكية فلسفية: «أنا نفسي أقل من نفسي، ليس لتثبيت علمي أو خبرتي في الغبراء الواسعة على قلتنا، وإنما لقلة حيلتنا وصبرنا في استنطاق وجداننا، وبعض خلايا الفهم وجينات الوعي عندنا». ويعلن أنّ «الناس بدنٌ، يقطعه سمسار الروح، يخيطه سمسار المتعة، يكسره سمسار الخوف». فالحضور أنثى المعنى والزمن تابوت.
موسوعي نعيم في كتابه، يناقش ويحاور الجاحظ والمتنبي وطه حسين الذين يسألونه: «لماذا أحببت تأبط شراً، وديك الجن الحمصي، وكمال خير بك أكثر منا؟؟؟». وفي حالة من المكاشفة ومحاسبة الذات، يفصح: «كنت مشهدياً أكثر منه جوانياً، وقد جعلتني الأورام البشرية أحتار في إنسانيّتي، كوكب يحمل أكثر من سبعة مليار علّة، أنا أحداها». علاقة الشاعر مع أبيه كانت ملفتة ومنه تلقف الأدب وحسن الحديث ومعنى «قيمة الإنسان»: «شوف يا ابني ليس كل طويل العمر كبيراً، لا علاقة لقصر القامة أو طول العمر بالكبر. لكن نعيم –غيفارا الجبل—لم يرد يوماً أن يصمم أحد حياته. قرر أن يتصارع مع التنين. وأمه كانت له دوماً بالمرصاد: ألم أقل لك مراراً وتكراراً لا تحلم... ممنوع عليك الحلم يا فتى!».
يرى نعيم أن كل مخلوق حي هو اخترع إلهه ليضيفه إلى حضوره، كيف يمارس متعته في البحث عن شيء يحميه. لكنه يبقى بحاجة له أكثر من نفسه لينقذه من الخوف والضياع والموت. ويطرح على نفسه السؤال: «هل أنا زمن غابر منقرض أشهد على فداحة ما أصيب بي ظني لأكون شاهد زور على معناي؟؟». والموت هو صورة نهائية للحياة، وهو الصورة الأجمل للخلاص من العطب. ولا ينسى شاعرنا ــ الفيلسوف أن يستعين بعبارات من أهله كي يفهم الوجود. «قم يا ولد، العالم ينتظرك». كانت أمه تقول له. ومن زوجته تدرّب على الصمت: «لا بد من الصمت لغة كي تسمع نفسك قبل أن يسمعك الآخرون». وهو متشائم عموماً، فعنده «الناس كثيرون والإنسان قليل».
مهمة «أرض الزئبق» هي الكشف عن الحجاب. فيسأل تلحوق: هل يتحمل الفرد البشري القدرة على التحمّل ليصل إلى مرتبة الإنسان وليكشف عن عينيه الحجاب؟! لكنه كتاب موسوعي أرضي يقارب شتى المواضيع ومنها استشهاد ابن خال الشاعر في بنت جبيل عام 1978 و«إسرائيل» السرطان الذي لا يمكن أن نزيله إلا إذا توقفنا عن التفكير به، والإعلان عنه. تعلم شاعرنا من سعيد تقي الدين الكثير، ومن الزعيم أنطون سعادة أكثر. فهو قد تعلم منذ صغره أن يكون ما يكتب وما يقول، فـ «الشاعر غير منفصل عن الإنسان في داخلي». كم يبدو جميلاً نعيم ومتألقاً حين يقول: «وعيت عمري باكراً حتى تهجرت من طفولتي، عجوزاً في جسد شاب، أخذت بملاحقة المعنى كي أصل إلى الطريق، وحتى الآن ما زلت أفعل ذلك».
مقاربة الشاعر لموضوع الزعيم أنطون سعادة تبدو مختلفة صريحة وصادمة، بل محطمة للجمود العقائدي الذي استجلب على القوميين الاجتماعيين لقب «الطائفة 19». والشاعر على ما أظن صاحب تجربة سابقة في هذا الحزب الذي لا يزال يتصارع مع بيئات طائفية تدينه وتحاربه وفي الوقت نفسه يتصارع مع نفسه! نعيم لم يشعر بوطن يولد في داخله إلا حين قرأ أنطون سعادة. وفي الوقت نفسه، يصدمنا حين يكشف عن نصيحة أسداها الشاعر القروي رشيد سليم الخوري لسعادة، حين قرر العودة من المهجر: «إلى أين أنت ذاهب يا أنطون؟ أتريد أن تدبّ نفسك في التهلكة؟ لا تذهب إلى جهنم، الأحلام ممنوعة هناك؟». وقال له في موضع آخر: «المنطقة ليست شعباً، إنها شعوب وقبائل متناحرة». حتى رياض الصلح عرض عليه لاحقاً في لبنان تأسيس حزب طائفي بدل علماني ليحكما معاً البلد (شراكة سنية-أرثوذكسية)، لكن الزعيم رفض. فقال له الصلح: «أنت مجنون يا أنطون... ستموت».
«الحياة بحاجة إلى خطأة، ليستقيم صوابها» يقول له كمال خير بك. «لا تأخذ شيئاً على محمل الجد، فكل ما حواليك وهم زائف... أما الحقيقة الوحيدة... فعليك أن تكتشفها في داخلك». ويقول له أبوه: «يا بني كن بسيطاً، البساطة تدلّك على اليقين». فقد شاعرنا الأمل في مدينته «بيرتا» (بيروت) التي صارت مدينة العبث. الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. «الكل يتآمر على الكل».
يناقش ويحاور الجاحظ والمتنبي وطه حسين


عقد قرانك على الأمل وأترك للموت أن يعقد قرانه على الحياة. عن الحب والزواج نصحه أبوه يوماً: «إياك يا ولدي أن تعقد قرانك على فتاة تحبها أكثر مما تحبك»!! من بلاغة أبيه إلى تقوى الحلاج إلى العقل لدى ابن رشد إلى سعادة والجاحظ، مروراً بهايدغر ونيتشه وابو العلاء المعري، إلى محمد وعيسى، وجد نعيم أن الوجود عبثي لا معنى له. ما هو المعنى من المعنى إذاً؟! «الله حادث خطأ، والنقاء يكمن في العدم وفي الشغف. حين شُغف العدم كان الله. تأخرت كي أعرف أن اللغة هي في المحو لا في الإملاء والإنشاء».
الأب، معلّمه الأول، بقيت أقواله محفورة في ذاكرة الشاعر: «نقاء الصورة يا بني ليس دليل بياضك. دائماً في البياض مساحات لم تشغلها وهي ما يجب أن تفهمه لتحصّل معناك».
ولا ينسى نعيم أن يخفّف عنّا في نهاية كتابه ويضحكنا بقصة أخيه مع البروستات والبروتستانت! فهو كان يخلط بين الكلمتين إلى أن تزوج من طائفة البروتستانت فاكتشف الفرق اللفظي...
وبقت صفعة الأب التي علّمت على وجهه أسبوعاً: «كن بسيطاً كالله واحترم نبضك كي لا يستقيل نبضك منك».
كتاب «أرض الزئبق» يصعب تصنيفه. هو قريب من جردة حساب فكرية فلسفية وجودية وعائلية مشغول بأسلوب جمالي عال يسمو بقارئه إلى حيث يريد الشاعر. قرأته بحذر وتأنٍ، وكان عليّ تركه لأيام ثم العودة إليه لثقل تعابيره وعمق تحليله وحلاوة أبعاده الإنسانية. كتاب يستأهل أن يُقرأ مراراً وأن يحتل مكانه الاستثنائي في المكتبة.
شكراً نعيم على هذا المجهود الذي أخذ منك خمس سنوات والذي سيعطينا زوّادة لسنوات طويلة قادمة.
حسبي أنه لن يكون الأخير.

* روائي وكاتب لبناني