هل هي صدفة؟لم أنتبه للأمر إلا منذ يومين أو أكثر.
كنتُ أقرأ بالتزامن كتاب «تاريخ لبنان الحديث» (1) وكتاب «أسرار حرب لبنان» (2).
في المساء وقعتُ على وثائقي «بيروت تحت النار» (3)
نظرتُ إلى التاريخ على هاتفي : 16 أيلول.

أربعون عاماً إذن.
حسابٌ بسيط.
لكنه ليس كذلك في حسابات التاريخ.
وهو ليس كذلك في مسارات تاريخنا الشخصي.

في حزيران عام 1982 كنتُ مراهقةً تستعدّ بحماسة للاحتفال بعيد ميلادها السادس عشر.
كنتُ قد كتبتُ ذلك في مفكّرتي. في الصفحة المخصصة لذلك التاريخ.
لكن، قبل تاريخ العيد بأيام معدودة، امتلأتْ صفحات مفكّرتي بكتابات أخرى.
تلك التي باتت توثّق لتقدّم جيش الاحتلال الإسرائيلي داخل بلدي.
لم أحتفل بعيد ميلادي السادس عشر.
احتلّت إسرائيل بلدي.

كانت طائراتها تملأ السماء.
كانت بوارجها تملأ البحر.
كانت دباباتها تملأ البرّ.
وكان جنودها يملؤون كلّ المساحات.
وكان التقدّمُ سريعاً وصاعقاً.
والقتلُ الرهيبُ أسرع.

في حزيران 1982.
في صيدا.
تنهارُ مبانٍ بأكملها على سكانها المحتمين في ملاجئها.
تحترق ويحترقون.
تسقط المستشفيات على مرضاها وأطبائها.
وتسقط طوابق المدارس على اللاجئين فيها.
يُدفنون تحتها أشلاءً نُثرَ عليها كلسٌ أبيض (4)

وكان لا بدَّ في ذلك الحين أن ننحني أمام عاصفة القتل الحديدية.
كان لا بدَّ أن نبتلع سمَّ العجز.
كان لا بدَّ أن تلفَّنا مرارة الإهانة وجموع مدينتنا تخرجُ حاملةً الخِرَقَ البيضاء لتنقادَ إلى «البخر». لتمكثَ أياماً.
لتحترقَ شمساً.
لتموتَ عطشاً.

وفيما كانت مدينتي تُصلَبُ في وضح الشمس، كان القاتلون «ينظّفون» شوارعها وأزقّتها من جثث أبنائها. يوقفون سيارة طبيب الأطفال الذي اعتنى لسنوات بطفولتنا، يطلبون منه أن ينزل ليلمّ أهله الضحايا عن الطرقات. وفيما كانت مدينتي تعطش وهي تنتظر الماء على البحر، كان القاتلون يدخلون دار المعلمين الذي كان يديرها والدي، ويتبرزون في جوارير طاولات الطلبة. ثم يبولون على المارّة من على دباباتهم. وكانوا أيضاً يوقفون صديقنا الطبيب ويطلبون منه أن يكسر البيض الذي يحمله معه، ويدهن به وجه زوجته الجالسة بقربه في السيارة. وكانوا أيضاً يضعون أهل حيّنا العالي داخل براميل ويقومون بدحرجتهم من أعلى الشارع الطويل إلى أسفله.
وكانوا يضحكون (5) .
كان القاتلون «ينظّفون» شوارعها وأزقّتها من جثث أبنائها


نعم.
كان لا بدّ.
ليس فقط لأننا لم نكن نملك، في حينها، مقوّمات المواجهة.
بل ربما لأنه كان لا بدّ من ذلك بالمعنى التاريخي.
من هذا الدمار الهائل ومن هذا القتل المحموم ومن هذه الإهانة التاريخية، قمنا.
ومَن صنعَ تلك القيامة هو نحن.
نحن الذين كنا حينها في عزّ اندفاعتنا نحو الحياة.
نحن الذين وقفنا لبرهةٍ عاجزين أمام آلة القتل الرهيبة.
نحن الذين عرفنا كيف أننا نُتركُ لنموتَ لأنّ الجميع تقريباً أراد لنا أن نموت.
نعم.
أرادوا لنا أن نموت في عزّ اندفاعنا صوب الحياة.
يا لهم من حمقى…
ففي عزّ اندفاعنا صوب الحياة اندفعنا بوجه من قتَلَنا.
من عمق المهانة اندفعنا.
من صلب الحمم التي أحرَقتنا.
من مدننا وقرانا المدمّرة قمنا.
شباب وشابات بعمر ربيعٍ دامَ صيفاً، دامَ أربعين ربيعاً.
قام خالد قام أحمد قام نزيه قامت سهى قام جورج قامت سناء قامت لولا.
قاموا.
وقمنا.
خرجنا من حطامٍ ظنّ القاتل أنّه قبرَنا الأبدي.
فكان قبرَ قيامتنا التاريخية.

أربعون عاماً.

من ذلك الصيف الدامي انقلبت المعادلة.
ظنَّ القاتل أنه حقّقَ انتصاراً تاريخياً.
لكنه كان يسطّرُ بالدمار والقتل أولى هزائمه المتتالية في أكبر تحوّلٍ تاريخيّ يشهده زمننا المعاصر.

1982.
2022.
أربعون عاماً.
لا يجعل التاريخُ للقَتَلَة مكاناً وزمناً غير مكان وزمن المقتلة.
فإنْ بقي لهم من ذكرٍ يوماً فهو أنهم القتلَة.

أما القبور التي منها قمنا، فهي التي تحمل الذاكرة.
نعم. للقبور ذاكرة وذكرى.
ذاكرة وذكرى تتراكم.
أديماً فوق أديمٍ فوق أديم.
والأديم ليس مجرّد تراب.
بل هو الزمنُ الذي صاغنا.
لنكتبَ تاريخنا.
لنكتبَ قيامتنا.
لنكونَ.
---
(1) فواز طرابلسي، تاريخ لبنان الحديث، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الخامسة 2018.
(2) Alain Ménargues, Les secrets de la guerre du Liban, Albin Michel 2004.
(3) وثائقي من أربع أجزاء عن اجتياح 1982 تبثه قناة الميادين.
(4) هذا ما رأيته شخصياً في مدرسة على تقاطع الهلالية.
يمكن العودة أيضاً إلى كتاب روبرت فيسك الذي دخل صيدا بعد أيام على اجتياحها ووثّق ما رآه. Robert Fisk, Pity the nation, Oxford university press, p243-281
(5) أنظر كتاب يمنى العيد «في النفاق الإسرائيلي»، دار الفارابي 2003، ص610-87.

* كاتبة وأكاديمية لبنانية