«ما الذي ينبغي فعله عندما تنقلب سفينة تحمل مئة راكب، ولا يوجد على متنها سوى قارب نجاة واحد، يكفي عشرة أشخاص فقط؟ إذا كان القارب مليئاً، أعداء الحياة هم الذين يحاولون إنقاذ رُكَّاب أكثر فيغرق القارب، إلَّا أن الذين يُحبُّون الحياة ويحترمونها يُمسكون بالفأس، ويقطعون أيدي الذين يتشبَّثون بجانبَي القارب»: قد تكون هذه العبارات القاسية للكاتب العراقي والمقيم في فنلندا حسن بلاسم في روايته «قانون سولولاند» (منشورات المتوسط ـــ 2022) خير تعبير عن أدب جديد بدأ يحجز لنفسه مكاناً في التصنيفات الأدبية والروائية اليوم: فبعد رواية الحب ورواية الحرب والسفر والسيرة الذاتية وغيرها، ها هو أدب قوارب المهاجرين يقفز إلى الواجهة مع ما نسمعه كل يوم عن غرق مركَب في المتوسط وهلاك ركّابه، آخرها المركب اللبناني الذي غرق قبالة ساحل محافظة طرطوس، مودياً بحياة مئة شخص تقريباً. أدب يعبّر عن أولئك الذين تلفظهم أوطانهم لفظاً من أحشائها، بعد أن تقتل آمالهم في الحرية والخبز إلى آخر الحقوق المصادرة، وتدفعهم إلى سلسلة طويلة لها قاموسها ومفرداتها القاسية، من المهرّبين بفظاظة طباعهم وقربها إلى الرعاة والسوقة والمحتالين، إلى المراكب المضعضعة التي تنوء بأحمالها وتنكسر في العواصف، وسترات النجاة التي لا تدرأ الموت أو الغرق، والصلوات باللغات كلها حين يدنو الأجل، والصور التي تطفو فوق الماء حين تغرق المراكب، أو الجثث كجثة الطفل السوري إيلان التي لا يريد الرجل الأبيض، الطرف الأخير في السلسلة أن يراها حيّة تزاحمه على رفاهيته، فكما يقول بلاسم في الرواية ذاتها «هؤلاء الشَّمَاليُّون وأصحاب بشرة التفوُّق الأبيض يريدون أن يشبّهوا حالنا نحن اللاجئين والمهاجرين، كالجراد. يريدون أن يقولوا إنهم يخوضون حرباً ضدَّ تدفُّق أسراب الجراد من بقاع العالَم المتخلِّف، وهو يهدِّد محاصيل رفاهيَّتهم المقدَّسة. في الحقيقة، هؤلاء أبناء الرفاهية والاستهلاك الأناني هم الجراد الحقيقي والأخطر على هذا الكوكب. إنهم أخطر جراد في تاريخ البشرية». نستعرض في «كلمات» مقتطفات من الروايات العربية التي تناولت هذه الثيمة المستجدّة التي بدأت تفرض نفسها على الأدب العالمي، ولا سيما بعد فوز السنغالي محمد مبوغار سار بجائزة «الغونكور» الفرنسية عام 2021 كاعتراف بمجموع أعماله ولا سيما «جوقة الصمت» التي تناولت الموضوع ذاته
هدى بركات: «بريد الليل»
دار الآداب ــــ 2018

أعجبتني فكرة المشي على الماء، أنظر إلى أفراد المجموعة، وكلّهم من الناجين الذين تمّ انتشالهم من البحر، وفقدوا أصدقاءهم وأهلهم في القوارب الغارقة. ربما كان عليهم أن يحاولوا المشي على الماء. هذا نقص في إيمانهم أو في تربيتهم. لو كنّا من المؤمنين لمشينا، بلا القوارب وأخطارها وتكلفتها. أنا كنت انتعلت حذاءً مريحاً ومشيت، على وجه الماء إلى أوروبا أو أبعد…هههه، أو ربما جرّبت السكيت-بورد لأنه أسرع من المشي، وربما توقفت قليلاً من أجل بيكنيك لطيف على وجه الماء، تليه قيلولة تعزّز طاقتي على التزحلق.

بانكسي ــ «البحر المتوسط» (2017 ـ تفصيل)

ثمّ لماذا لا تقع أبداً قطعة القماش التي تغطي أسفل بطن المصلوب؟ سألته لأتسلّى. كان المصلوب آنذاك عارياً تماماً لإذلاله. قلت: المصلوب يكون عارياً تماماً، إذ الهدف هو إذلاله وكشف عورته، لماذا غطّوه؟ جميل أن تراعي صوَر الكنائس وتماثيلها مشاعر المصلّين والمؤمنين، فالمؤمن خجول، في طبعه، ويحب التركيز. لكن نحن الآن يعرّوننا لأتفه إجراء: يلّلا اخلعوا ثيابكم، يلّلا، كل الثياب، والكلاسين؟ نعم، كأن عضو الواحد، أو باب بدنه إن تفحّصوه، يكشف أسراراً. في أي حال، لا أحد يخجل من عري أعضائنا، لا هم ولا نحن.
عاد الإنجيلي إلى الرموز، مرتبكاً بين الجدّ والمزاح. وانتهى الأمر بأن طردناه من حلقتنا لأنّ روح الدعابة لديه ضعيفة، فوسّعت أنا دائرة معارفي، وصار يعجبني أن أسمع لغات لا أعرفها، يتحدث واحِدُهم إليّ بها وأنا أهزّ رأسي مبتسماً، ولا أفهم شيئاً.
كانوا لسبب ما، يتكلّمون معي كثيراً وطويلاً، ربما لأنهم كانوا يعرفون أنّي لا أفهم لغاتهم، إذ من كان يريدني أن أسمع كان ينظر في وجهي ويتكلّم بالإنكليزية، أو ربما اعتقدوا أنني مجنون ولو قليلاً، بسبب شكل وجهي لأنّي أعور، لذا كانوا، يبكون أمامي في الليل، أو يستحمون عراة ولا يخجلون مني.
ثم فجأة خرجنا ذات صباح للتريّض الإلزامي، فوجدنا الحقل الذي يمتد أمامنا مليئاً بالخيام الصغيرة الملوّنة وكأنها زهور نبتت في الحشيش. ثم أتت الحافلات محمّلة بالناس، مع النساء والأطفال، أنزلوهم في المساحة المسوّرة بالشريط الشائك. والتفّت حول المكان أفواج من رجال شرطة راحوا يكلّمون الناس بمكبرات الصوت ومن خلف دروع بلاستيكية، ويلقون إليهم بزجاجات الماء وصرر الثياب، واصطفّت، في جانب من الحقل، كميونات التلفزيون…شعرت بالدوار، وقلت: فسدت القعدة، ومشيت.
أكتب لك كل هذا يا أبي لأقول لك إنّي أصوّت مثل غيري مع بارابّاس، ضمير الشعب، وأعترف نهائياً ببأس القيصر. فأنا الآن مشرّد، مريض، وأعور. ليست معي نقود، وليس عندي مكان أنام فيه، وأريد العودة إلى البيت.

محمد خير: «إفلات الأصابع»
الكتب خان ــــ 2018

قبل موته بشهرين، أسقط المغادر الأخير اللافتة على الأرض، ثم غطّاها بالتراب كأنما يدفن سيرة القرية نفسها ويمحو ذكرها تماماً، وداعاً يا قرية الفقر والجوع واللاذكرى.
وفي الفجر الموعود ظهرت المراكب في الضباب، تحركوا بين العشش الصفيحية المختبئة في سواحل بلطيم، خرجوا أُسَراً وعائلات، إخوة وأخوات وخالات وعمّات وأبناء عمومة، صعدوا ببطء المركب الذي كان من لون البحر والذي كانت مقدمته تنزل تحت وطأة أقدامهم لتشرب من الموج قليلاً ثمّ تصعد، تجمّعوا تلقائياً، العائلات بجوار العائلات، والأُسر بجوار الأُسَر، على النحو نفسه الذي كانت تتوزع به البيوت في البلدة، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لم يحملوا معهم أغراضاً إلا بعض الماء والطعام، بعض البنات الصغيرات فقط حملن معهنّ عرائسهنّ الخشبية الصغيرة المصنوعة من خشب الربابة وثمار الدوم وخصلات الشعر، وصعدت القرية واكتمل العدد وانفكّ الحبْل وارتفعت المرساة ودارت الدفّة، وانسابوا في الأفق المعتم، ولم يفكّر أحدهم مرة أخرى في «وهدة»، حيث نقف أنا وبحر الآن. […] وعاد أحمد إلى «وهدة» بلا أمل، وحين وصل خُيّل إليه أن العزبة قد خلت من أشياء كثيرة، لا عربات ولا نصبات الخردوات ولا لعب الأطفال، كأنّ يداً عملاقة امتدت ومسحت شوارع القرية كما تمسح سطح طاولة، وحين زاروه في المساء لم يستطع أن يردهم، استقبلهم ونظر في الأرض لكنه وجد نفسه يقول: رأيت أبي يمشي على الماء ضحوكاً ورأيتنا نتبعه. وهتف أحدهم: الله أكبر. والتمع الفرح والعزم في أعين البقية، ونهضوا كل إلى بيته ليمضي لياليه الأخيرة فيه، وفي الليلة الموعودة، غادروا فغادر معهم نحو البحر، وتوقف قليلاً قبل مغادرة القرية يساعد شابين انتزعا لافتة العنوان وطمراها في التراب، وحين وصلوا وباتوا، وجاء القارب صعدوا جميعاً، وساعد مع من ساعد من الشباب في صعود العجائز والأطفال، ولكن قبل أن ترتفع المرساة وجد نفسه يختفي في الظلام، ومن قلب الخوص والعشش رأى المركب يبتعد بناسه وذكرياته، وطن صغير يركب البحر، ومن مكانه لاحظ أنهم لم يلتفتوا وراءهم.

أشرف الخمايسي: «جو العظيم»
دار الشروق ـــ 2018

بالإضافة إلى صيحات النوارس، وهدير الأمواج، حملت نسائم الريح إلى أذنَي الريّس زبيبة صوت بثّ تلفزيوني. فليس بعيداً عن المرفأ، خلف تجمّع صخريّ، مرتفع نسبياً، ثمة عشّة صغيرة، كعشش الصيادين، أحاط بها عدد كبير من الشباب اليافع والمتوسطي الأعمار. كانوا زهاء مئتي شخص! تتحملق أعينهم، بكامل الانتباه، إلى شاشة تلفزيون عتيق، علّقَ خارج العشّة، بإحدى قوائمها الخشبية.
وبينما يصل صوت البثّ خافتاً إلى مسمعَي الريس زبيبة استغرق المئتا شخص في مشاهدة عدد من الضفادع البشرية يعملون على انتشال جثث آدمية غارقة، فيما يقول المذيع بنبرة صوت جنائزية: «أعلن عمدة لامبدوزا عن غرق أحد قوارب الهجرة غير الشرعية، في حادث جديد وعلى متنه مئتا شخص. وكان قادماً من ليبيا قاصداً السواحل الإيطالية، هذا وقد تمكّن الغوّاصون من انتشال سبعين جثة، فيما لا يزال البحث جارياً عن باقي المفقودين».
على الفور تهلّل وجه الريّس زبيبة، ومال برأسه إلى «جو» ووضع على خشب متنه قبلة طويلة.
كم هو فعل مشين أن يبدي أحدهم السعادة حين التحاق المصائب بالآخرين، لو لم يكن معروفاً بين جميع بحّارة وربابنة المرفأ أن نقاء، وطهارة، ونبل قلب الريس زبيبة قد فاقت الحد لدرجة تشبه البلاهة والعبط وأن قبلته لـ«جو» ليست شماتة في غير «جو» وإنما ذروة شعور بالعرفان اجتاح الريس زبيبة ربّما عبّر عنه بشكل غير مناسب في وقت غير مناسب. هي إذاً رغبة جامحة في تقديم امتنانه لقاربه الذي بدأ يجوب غياهب البحر في رحلات صيد قبل سبعين عاماً، مع ذلك مستمرّ في مغالبة الأمواج، وتناوب العبور بين ضفّتي البحر المتوسط دون حادثة غرق فاضحة، بينما ها هي القوارب الصغيرة السنّ، التي لم تزل شابة لا تستطيع فعل ذلك، وتغرق بركّابها غير الشرعيين كل يوم […]. كان لتلك الصيحة المفعمة بالأجواء الأنيقة، مفعول السحر في نفوس المئتي شخص. فما إن سمعوها حتى انتقلوا بلحظة خاطفة، من مشاعر دنيئة إلى مشاعر سامية، من أوضاع حقيرة لزمتهم كمهاجرين غير شرعيّين، إلى وضع محترم تستعد معه سفينتهم لاستقبالهم بحفاوة، كأي مسافرين طبيعيّين يحملون أوراق سفر، وتصاريح إقامة رسمية. لكن، وقبل أن تنتشي أرواحهم بهذا الإحساس الفخم، برز المهرّب إلى خارج عشّته لينتزعهم من هذا الوضع الجديد، المحترم، معيداً إيّاهم إلى محبسهم في وضعهم السابق الحقير، عندما زعق فيهم كأنهم حثالة البشر: «هيا، اركضوا بسرعة يا متاعيس، قبل أن تكتشف الغربان وجودكم فتخسروا كل شيء». يعرف هؤلاء المتاعيس، لخبرتهم البسيطة المكتسبة من التعامل مع المهربين ووسطائهم، من المقصود بالغربان. لكن أحدهم، يدعى «كلام ضيف سيد طماطم»، وكان مزارعاً في قرية نائية من صعيد مصر قبل أن يغادرها للأبد، اعترض على السلوك المهين للمهرّب الفظّ بأن صاح متسائلاً باستنكار، وبنبرة مصطنعة البراءة: «أي غربان؟!». كان المهرّب سوقياً، وهي فطرة فطَر الله عليها المهرّبين جميعاً، حيث لا يولي الواحد منهم ظروف الآخرين اعتباراً. هكذا لم يفكر هذا المهرّب، ولو للحظة، في أن المعترض مجرّد مهاجر غير شرعيّ مسكين، إنسان يعاني ضغوطاً نفسية صعبة، وأن الصواب لم يكن إجابة سؤاله الاستنكاري، المتذاكي! بسخرية مريرة نهشت إحساسه نهشاً بذيئاً أجبره على التزام الصمت المطبق متجرعاً الإهانة دونما ردّ. وكان المهرّب نظر إلى شكل «كلام» فرأى أنه أقل ذكاء من بقية رفاقه المئة والتسعة والتسعين! على ذلك أجابه بتعسّف: «الغربان التي خطفت كتاكيت أمّك».

العربي رمضاني: «أناشيد الملح»
منشورات المتوسط ـــ 2019

بعد مرور أسبوع، طلبْنا من المهرّب أن يأتي. جاء مساءً. أخبرَنا عن رحلة نهاية الأسبوع أو بداية الأسبوع الذي يليه، بسبب رداءة الجوّ. وذات مساء، جاء إلينا مساعده الشّابّ الكرديّ الذي استقبلَنا أوّل يوم، طلب منّا تحضير أنفسنا، والاستعداد للرحلة. بعد ساعات طلب منّا أن نخرجَ ونرافقَه في الشارع المؤدّي إلى شارع آخر على طرف المدينة. وصلْنا إلى مكان شبه مهجور. بقيْنا هناك للحظات، ثمّ طلب منّا أن نصعد إلى حافلة كانت مركونةً بالقرب من بناية مهترئة، وجدْنا داخلها عائلات عراقية، وبعدها بلحظات، بدأ وصول أفرادٍ آخرين أفارقة وسوريّيْن، جاء مهرّب آخر، وطلب منّا أن نتفادى الضّجيج. انطلقت الحافلة بعد انتظار طويل والتحاق «النفرات» (المهاجرون الآخرون). كانت سيّارة تسبقُ الحافلة، وهي عبارة عن كشّاف، يعتمد عليها سائق الحافلة في مسيره الطويل الذي امتدّ لحوالي 200 كلم، توقّفْنا خلاله لمرَّتَيْن، الأولى بسبب حاجزٍ أمنيٍّ غَادِرٍ بعد منتصف اللّيل، والأخرى بأمرٍ من الكشّاف الذي كان يتفقّد البحر. بعد توقّفِ الحافلة في محطّة وقود مهجورة، نزلْنا للتّبوّل والتدخين. كانت الرياح باردة جدّاً. صعدْنا مجدّداً إلى الحافلة، على أصوات بكاء الأطفال. كانت أمامي طفلةٌ سورية مع أُمّها، ترتعشُ من البرد الذي منعَني من النوم، لم أكن أشعر بحركة الحافلة التي انطلقتْ وتقدّمتْ كثيراً حتّى توقّفتْ أخيراً، وسمعتُ مرافقي يُوقِظني والسائق التّركيّ الطويل الأصلع يطلب منّا النزول بسرعة، وبلهجة مشرقية «يلّا يلّا!». بعد النزول، داهمتْنا ريحٌ قوية وباردة، ابتعدْنا عن الطريق، ووجدْنا أنفسنا في حقل زيتون، والرياح وقحة لا ترحم، وعلى الشاطئ مشاريع مهاجرين من جنسيات مختلفة، لا يملكون إلّا أحلامهم بعد أن هربوا من حروبٍ وأوطان وفساد وجحيم وخيانات، ترتعش أيديهم وهي تعبث بالهاتف خلسة عن المهرّب، وتكتب آخر رسالة إلى أهل أو أحبّة قبل لفّها في كيس بلاستيكي حتّى لا يطاولها الماء. سنكون في عداد الموتى، وفريسة محتملة تُبهِج بطن بحر إيجة. ارتديْنا النّجّادات التي اشتريْناها من بسمانة، دخَّنْتُ آخر سيجارة بعيداً عن المهرّب، حتّى ظهر أمامنا قارب مطّاطيّ، وتفاجَأنا أنه صغير الحجم مقارنة بعدد الرّكّاب الذي تجاوز الثلاثين. الاحتجاج في هذه اللحظات لا ينفع، ليست باليد حيلة. صعد الأطفال الذين ارتفع بكاؤهم بفعل الصدمة ربّما أوّل الليل وتواجدهم مع غرباء، وصعدت النّساء. ثمّ بدأ المهرّب بفظاظة لا مثيل لها في تكديس النّفرات حتّى جاء دوري، دخلتُ البحر، كان بارداً جدَاً، تبلَّل جسمي، وبصعوبة حصلتُ على مكانٍ أجلس فيه. بقيْنا وحدنا رفقة البحر وهديره المُفزِع.

أبو بكر كهال: «تيتانيكات أفريقية»
دار الساقي ـــ 2008

كان الموج يأتي مثل جبال محتدمة تلطم المركب الذي أصبح مثل فقاعة ستنفجر آجلاً أو عاجلاً. همس: لماذا يوحي هذا المركب بأنه على وشك الغرق؟ وهذا الخشب الذي يئنّ، ألا يعرف أن يصمت؟ خلص بعض المهاجرين إلى يقين قاطع بأن الكارثة واقعة لا محالة. وكلما رأى وتيرة الرعب المتعاظمة، خشي أن يفقد الناس الأكثر هلعاً صبرهم ويقفزوا إلى المياه. لكنّ الخطر الحقيقي لم يكن في الموج، على الرغم من شراسته، بل كان في الثقب الذي ظهر في أرضية المركب وأخذ يتدفق عبره السيل، مهدداً بغمر المحرك. ضربات الموج العاتي وقرقعات الخشب وانخلاع أجزاء من جسم المركب الخارجي، جميعها تكفّلت بإضرام الصراخ والهذيان وانفلات الأعصاب.

محمد العون: «مراكب الليل»
دار الحضارة للنشر ـــ 2017

البحر يبدو في الظلام مخيفاً... مرعباً ، لا ضوء مطلقاً في هذه المنطقة البرية المهجورة، صوت الهدير المزمجر والرياح القوية وهي تندفع بوحشية نحو اليابسة يخلع القلب، ويجعل من فكرة وضع القدم في الماء فكرة مجنونة تؤدي إلى الهلاك المحقّق، لا توجد خلجان أو شواطئ مقوّسة نصف دائرية تهدأ عندها الأمواج وتنكسر حدتها، لتداعب الرمال برفق وهي تدخل بين طرفي القوس اللذين يرسمان الشاطئ على الخريطة ويحددان مساحته، بل يصطدم البحر مباشرة بالأرض الممتدة كخط مستقيم بكل عنفوانه وبجبروت المياه العميقة بما فيها من تيارات لا تكفّ عن التصارع حتى خط الصدام باليابسة، في هذه المنطقة لا تسمح حركة البحر العنيفة بتكوين مساحة منبسطة من الرمال تمتد داخله لمسافة كتلك التي توجد في الشواطئ، بالكاد مترين أو ثلاثة ثم تجد المياه العميقة والأمواج العالية وتيار السحب الشديد الذي يُغيب الإنسان في جوفه خلال ثوان قد لا يظهر له أثر بعدها.
على بعد عدة كيلومترات وعند سفح تل رملي تتناثر عليه بقع عشبية خضراء باهتة وبعض النباتات الصحراوية المائلة للاصفرار، ترقد عدة بيوت واطئة لها طابع بدوي، مبنية بالطوب الإسمنتي وسقوفها من ألواح الصاج وعروق الخشب. المطر يهطل بشدة والهواء يأتي من البحر في هذه المنطقة البرية بارداً كالصقيع، في غرفة بأحد هذه البيوت التي لم تدخلها الكهرباء ولا الماء بالطبع، يجلس جلال الغرباوي القرفصاء ويغطي نفسه ببطانية مهترئة وحوله أربعة عشر شاباً يرتجفون من البرد، دفع عشرة آلاف جنيه ووقّع أبوه شيكات وإيصالات أمانة بعشرة أخرى ليصل إلى هذا المكان البائس الذي سيعبر منه البحر، خرج منذ أسبوعين من عزبة عبد الواحد مصمّماً على الهجرة، المسافة بين الفقر والموت ليست كبيرة! إذا لم نعش هذه الحياة كما يجب أن تُعاش فلا داعي لها من الأصل والموت أفضل منها، نعم الموت أفضل من الحياة التي نعيشها! منذ أن كان طفلاً وهو يسمع عن جمال عبد الواحد وسعد حسين عبد المعطي والحياة الرغدة التي يعيشانها في أوروبا وما فعله كل منهما لأسرته، في المرات القليلة التي زارا فيها البلدة رآهما من بعيد وحسدهما من كل قلبه وتمنى أن يصبح مثلهما عندما يكبر، سار في التعليم حتى حصل على دبلوم التجارة ثم... لا شيء، لم يجد أمامه سوى العدم، بين الحين والآخر يعمل لعدة أيام في الحقول ثم يجد نفسه بلا حول ولا قوة فى البيت لا يجد ما يفعله، أبوه نفسه عامل أجير لا يملك شيئاً، جده عاش طوال عمره فقيراً منذ ليلة هروبه وهو شاب بامرأته وعياله من بيته تاركاً خلفه أهله وعائلته، هذا الهروب الذي لم يعرف جلال أبداً السبب فيه، لكنّ جده فتحي كثيراً ما كان يذكر أن حياته تغيرت بعد تلك الليلة التي ترك فيها بيته وبهائمه والأرض التي كان يستأجرها بما فيها من زرع…