يقول الكاتب والمصوّر الفرنسي هيرفي غيبير: «لو أنّني التقطتُ الصورة لطمستُ كل ذكرى لي عن العواطف التي اجتاحتني، فالتصوير يحجب الأشياء ويؤدي إلى النسيان، بينما الكتابة هي العائق أمام النسيان، هي الفعل السوداوي، هي «الصورة» التي أسترجعها في مخيلتي». وهو محقّ تماماً، فالكتابة هي الصورة المقاومة للنسيان، الصورة الخالدة التي نستعيدها متى شئنا ذلك، هي نحن بتفاصيلنا الحية لا الجامدة تلك التي نتحول من خلالها إلى أشكال.تحيلنا عبارة غيبير إلى كتاب «غرفة التظهير» لرولان بارت الذي يرى فيه أنّ «كل صورة هي صـورة محتملة»، إذاً الصورة تصبح بطريقة ما استعادة لتاريخ مجتمع وليست استرجاعاً لذكرى شخصية فحسب. والكتابة هي الروح التي تحييها. أمّا إذا ارتبطت الصورة روائياً بالموت لدرجة يصبح فيها حدثاً رئيسياً، فالأكيد أنّ الحكاية لن تكون عن شرح فكرة بسيطة عنه، وإنّما تعيد الصور سرد تاريخ شخصي لفترة مضت، أي تنطلق من الخاص إلى العام.
يقول جيروم فيراري في رواية «على صورته» الحاصلة على جائزة صحيفة «لوموند» الفرنسية (صدرت عن دار مسكيلياني في عام 2022 بترجمة رصينة لوليد أحمد الفرشيشي): «على المرء أن لا يهرب من مشهد الموت، وأن لا يسعى لتجميله». أي أنه يتعيّن علينا أن نفهم الموت كما نفهم الحياة ولا نسعى إلى الهروب منه باعتبار أنّه مؤلم. بل هو شكل آخر من أشكال الوجود. وهنا، تأتي قوّة هذه الرواية التي ربطت الموت بالتصوير لاستقراء التاريخ أدبياً، وذلك من خلال بطلتها «أنطونيا» التي ماتت مبكراً. و«الوفاة المبكرة ولا سيما حين تجيء بغتة، تكون دوماً أشبه بالفضيحة في قدرتها الهائلة على إغراء الناس بالقدوم»، كما جاء في الرواية.
تبدو قصتها مختلفة تماماً عمّا يمكن تصوره، فالموت يعيش ليروي! إذ نتعرف إلى «أنطونيا» في جنازتها، ومن تلك النقطة بالذات أي الموت، نعرفها أكثر، وكأنّ أعمارنا في النهاية مجرّد صور لن تكتمل إلّا عندما تغادر الروح الجسد.
نحن لا نسترجع من خلال الصور من أحببناهم ، بل نسترجع ذكرياتنا المشتركة معهم. وكما قال رولان بارت: «لقد منحتني الصورة لمرة واحدة، شعوراً أكيداً كالذكرى».
فمن هي «أنطونيا» التي أراد لها جيروم فيراري أن تموت بحادث مرور؟ يذكّر موتها روائياً بما كتبه أركادي دافيدوفيتش عن رواية «آنا كارينينا»، قائلاً: «لم ترغب آنا كارينينا في إلقاء نفسها تحت القطار، ولكن تولستوي أصرّ على ذلك».
الرواية عن «أنطونيا» الفتاة المليئة بالحياة والمحبة للتصوير، المهنة التي لا تتقن سواها والهواية التي تفسّر الأشياء من منطقها، فبرأيها: «لا تقاس قوة التصوير الفوتوغرافي من جهة كونه فناً، ما دامت الجماليات الخالدة لا تقع ضمن مجال تدخله. إنّ كل ما يقدر التصوير الفوتوغرافي على فعله هو قطع مجرى الزمن مثل «مویرا»». و«مويرا»، كما شرح المترجم واحدة من ثلاث أخوات يجسدن القدر في الميثولوجيا الإغريقية، إذ «كان يبدو لأنطونيا» أنّ جميع الأماكن المألوفة، ومن ورائها العالم الشاسع بأسره، حافلة بالأشكال الصامتة، وكأنّ جميع لحظات الماضي تحافظ على بقائها معاً، لا في الأبدية وإنما في استمرارية الحاضر على نحو يصعب تصديقه».
لا تحب «أنطونيا» التصوير فقط بل تهوى اكتشاف الأشياء التي تجعلها فتاة حرة تمارس هواياتها بالطريقة التي تبصر بها الأشياء، فحتى الحب من منظورها كان حدثاً استثنائياً، إذ أحبّت صحافياً ومناضلاً وطنياً التحق بحرب البلقان...
وهنا تتجسد صورة أخرى لمعاناة المرأة أو الرجل حين يتبع قلبه ويركض خلف الشعارات الزائفة كأن يناضل أحدهم من أجل الحرية لكنه يفشل في الاعتراف بها في الحب.
أيضاً وُصف أدبياً التفكك الذي لحق بيوغسلافيا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
الرواية كذلك عن صدق المشاعر الإنسانية متجسّدة في شخصية خالها وعرّابها الذي أحبّها كما لو أنّها ابنته: «كان يثق بـ«أنطونيا» ثقة عمياء وكل ما تقوله أو تفعله يثير إعجابه، وإذا ما ضبطت وهي ترتكب خطأ ما، فسرعان ما يفترض أنها لم تفعل ذلك إلا استجابة لغرض نبيل يجهل كنهه. لقد شعر بأنه ارتبط بها برباط الدم والروح إلى الأبد لحظة حملها فوق جرن المعمودي».
هنا الكاتب أبدع في التقاط مشاعر الخال التي تراوح بين واجب عرابها الديني ككاهن وواجبه الإنساني كخال بمثابة أب، إذ راح يستذكر الذكريات التي تبدو وكأنها صور تعيد الأموات إلى الحياة وتضعهم في مكان لا يطاوله النسيان.
وعن أنطونيا يقول خالها: «قلب «أنطونيا» يفيض بحب يجعلها هشة، على نحو خاص، أمام الألم كما أعرف أن الألم يقود أحياناً إلى الثورة. أعرف ذلك لأنّني خالها وعرّابها ولأنّني عرفتها وأحببتها».
كان جيروم فيراري ذكياً في طريقة ربطه بين «أنطونيا» ومصوّرين آخرين للحديث عن الحياة وكأنّ مهنة التصوير أو الصورة هي التي تتحدث حين يصمت صاحبها ويغيب إلى الأبد.
أن يصبح من نحبهم مجرد صور، فالأكيد يحتاج منا الأمر إلى شجاعة كبيرة لتقبل ذلك. وفي الوقت نفسه، نحاول قدر الإمكان تحريك تلك الصور بواسطة الذاكرة لنلتقط ولو شيئاً منهم. فتجربة الفقد لن تسقط مع التقادم، فحتى الأحياء يفقدون شيئاً منهم مع رحيل كل عزيز.
أحداث الرواية تدور في جزيرة كورسيكا موطن الكاتب. كورسيكا التي تعتبر فرنسا بلد احتلال.
وانطلاقاً من كورسيكا، ينقل جيروم فيراري روائياً تأرجُح البشر بين الخير والشر، كما أنّه يبرز علاقة الحروب بالتصوير، وذلك الخيط الرفيع الذي يربط بينهما: «النظر لا يركز على الصور إلا لكي يخترقها ويدرك بالتالي ما هو موجود وراءها».
لا نسترجع من خلال الصور من أحببناهم، بل نسترجع ذكرياتنا المشتركة معهم، وكما قال رولان بارت: «لقد منحتني الصورة لمرة واحدة، شعوراً أكيداً كالذكرى».
تحمل الصورة إمّا ذكرى مؤلمة أو سيئة، لكن تظلّ وحدها ما يعيد شيئاً من الماضي للحاضر. ولكن فكرة الرواية ليست عن ذكرى الصور الجميلة، بل عن تلك صور الحروب وما تحمله من فظاعات وكأنّ «البشر يفضّلون الاحتفاظ بذكرى مؤثرة عن جرائمهم»، كما ورد في الرواية.