كنت متيقّناً منذ البداية بأنّ هذه الثمرات ــ القصائد المتفرّدة التي قرأتها هنا وهناك وتبعاً للمناسبات والملفات ستقودني إلى الحقل. كان الشاعر الراحل خليل حاوي يجترح القصائد ويكتب وينعم النظر ويطوي الأوراق لأجل ضوء جديد في سنواته الأخيرة. ولعله هذا هو «الديوان الأخير» الذي بين أيدينا اليوم. ولكن ما هي قصة هذا الكتاب؟ وكيف اكتملت عناصره وخرج إلى النور؟ حاولنا دائماً أن نجمع هذه القصائد غير المنشورة في كتاب، ولكن لم تسعفنا الظروف ولا الأيام. هذه السنة، في الذكرى الأربعين لرحيله، كانت مؤاتية بهمة عائلة الشاعر خليل حاوي وجهود جمانة حاوي ابنة شقيقه إيليا. بدأ العمل يشقّ طريقه نحو النور. جُهزت القصائد التي بلغت 19 وأغلبها بخط يد الشاعر. تعاملت مع هذه القصائد بالكثير من الخوف والرهبة والتهيب. وكان من المأمول أن يكتب مقدمة العمل ويحقق القصائد ويدققها الدكتور وجيه فانوس (1948-2022) تلميذ خليل وصديقه. لا أزال أذكر علائم الفرح والدهشة التي غمرت وجه وجيه ومبلغ حماسته واهتمامه بالكتاب. «هو أستاذي ومعلّمي وشاعري الأثير» قال. أخبرني تفاصيل جميلة عن صداقته مع حاوي. تذكر كيف زاره حين نال منحة تفوقه في الجامعة اللبنانية لمتابعة الدراسات العليا في «جامعة كامبردج». ومبلغ فرحه بها لأنّها الجامعة التي تخرج منها أستاذه. قال له حاوي: «يا معلمي الأستاذ اللي علمني بجامعة كامبردج مات، خلينا نشفلك محل تاني». وتحولت المنحة إلى «جامعة أوكسفورد». تذكر أيضاً وجيه فانوس كيف دخل إلى مكتب خليل حاوي في الجامعة الأميركية بعد غيابه ليحل محله في تدريس مادة النقد الأدبي، وكيف شهق باكياً حين رأى في فنجان قهوته على الطاولة تفلاً أسود. سألني عن المهلة القصوى لإنجاز المقدمة وتحقيق القصائد. فقلت: «حين تنجزها». رحل وجيه بعد أيام ولم تزل القصائد معلقة في حاسوبه. قال لجمانة حاوي وعلى طريقته: «حاسس إنو الجمعة الجاي رح شوف خليل وايليا». أروي كل ذلك لأنّه جزء لا يتجزأ من قصة الكتاب. ولأقول إنّ الأقدار تدخلت وتبدلت الطرق. استعضنا عن مقدمة وجيه فانوس بمقالة كتبها في 13 حزيران (يونيو) 2022 في الذكرى الأربعين لوفاته. وقام بتحقيق القصائد وتحقيقها الدكتور محمود شريح. وخصّ الكتاب بكلمة طيبة على الغلاف الشاعر شوقي ابي شقرا بعنوان «الشاعر القدوس». كما رافقت القصائد رسوم من الفنان شوقي شمعون. ولا أنسى التعاون بالنشر المشترك مع «مؤسسة أنور سلمان الثقافية». لذلك، أقول، إنّ ورشة كتاب «الديوان الأخير» الصادر في الذكرى الأربعين لرحيله كانت بادرة حب ووفاء لشاعر له في ذمتنا الكثير. شاعر الرؤيا، بل كل تلك الرؤى الصادقة التي تجمعت في تجربته. قصائد «الديوان الأخير» تقول لنا أشياء كثيرة، وأهمها أنّ حاوي عاش حياته وحياة أمته على وقع قصائده، وأنّه عاش على شفير كل شيء. شاعر الذات – الموضوع. شاعر الرؤيا الحضارية وشاعر ذلك التفاعل المأساوي – الخلاف مع قضايا امته. ربما ، تتساوى قيمة هذه القصائد التوثيقية بقيمتها الفنية والعكس صحيح. لكن ثمة أهمية على صعيد آخر وهو معرفة ماذا كان يكتب خليل في سنواته الأخيرة، وماذا كانت أفكاره وانهماكاته، وما هو الشكل الشعري الذي كان يترصده للمضامين التي عبر عنها.
يبقى أنّ هذه القصائد جزء لا يتجزأ من آثاره وتجربته، وأنّها صدرت من بيروت المدينة الأحب إلى قلبه، وأنّ روح خليل حاوي وتمرده وسعيه نحو كل أمل يُحيي هذه الأمة لا يزال ينبض حاراً لاهثاً في أوراقه وفي حضوره وفي غيابه.
* ناقد وناشر لبناني
في إطار أنشطة «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 64»، تعقد ندوة حول الكتاب يشارك فيها: محمود شريح، ربى سابا حبيب، لميس وجيه فانوس وسليمان بختي.