صاغ خليل حاوي بانتحاره قصيدته الأخيرة، مخلخلاً بحور الخليل ورنين الإيقاع، وخبط جناحي الطائر. كان لديه كل مفردات المعجم كي يكتبها ببندقية صيد على شرفة منزله عشية 5 حزيران بما يواكب هزيمة 1967، واقتحام الجيش الإسرائيلي بيروت 1982، على الأرجح لم يحتمل الشاعر مثل هذا العار، فأنهى حياته بطلقة في الرأس. سيرته الشخصية المضطربة تحتمل أسباباً أخرى للانتحار، لكنها لا تصلح وحدها كي تكون رافعة للصدمة. إصدار «الديوان الأخير» أعاد صورة خليل حاوي إلى الواجهة، ليس كإضافة شعرية لتجربته بقدر ما هو توثيق لميراث واحد من الشعراء التموزيين، أولئك الذين اشتغلوا في منطقة الخلاص والقيامة والانبعاث، كنسخة حداثية للشعر العربي بموازاة قصيدة ت. س. إليوت «الأرض اليباب». لكن خليل حاوي على نحو خاص، ذهب بشعره إلى تصوير وتصدير الفجيعة أكثر من سواه استجابة لجحيمه الخاص، مازجاً الأفكار الفلسفية بعنفوان المفردة الشعرية المحمولة على أزمة الذات وقسوة العيش وفجيعة الفقدان، بالإضافة إلى إيديولوجيا حزبية أربكت الإيقاع، لمصلحة الوصايا أكثر منها توقاً شعرياً خالصاً.

الرحلة من القاع إلى جامعة «كامبردج» أغنت ذخيرة صاحب «نهر الرماد» بفلسفة عميقة ستنعكس على نصوصه، من موقع الضّد، وإذا بها تحتشد بكل ما هو جنائزي، كأن استدعاء مفردات الجحيم هو البرزخ نحو القيامة، كما ستنقذه الأسطورة من ضباب الطريق، لتتكشّف لاحقاً عن خراب كلّي. أحوال الحطام والهزائم والانكسارات لم تمنعه من تمجيد ما سيأتي بنبرة تبشيرية، مرّة تلو مرّة إلى أن فقد الأمل، مثلما ارتدت قصيدته إلى ملاذها الآمن لجهة اللغة المصقولة والمفردة الجامحة. ذلك أن الوصفة الأسطورية أو الرؤيوية في مجابهة فجائعية الواقع، لم تنقذ قصيدته في الخروج من مأزقها، وتالياً مأزقه الوجودي، على رغم سعيه إلى تقشير الأسطورة من رموزها المتداولة نحو «البناء السيمفوني المركّب» وفق ما يقول غالي شكري. عموماً، إن خليل حاوي شاعر تموزي من طراز متفرّد، نظراً إلى الجرعة العالية لقلقه الشخصي وغضبه وعنفوانه في هجاء الأرض الخراب. هذه المخاضات العسيرة التي رافقت مسيرته المتأرجحة بين الأمل والخيبة، النهوض والانكفاء، اليقين والشك، الضوء والعتمة، انطوت على روح متوثّبة من جهة، واحتضارات متعاقبة من جهةٍ ثانية، ألقت بمشروعه الشعري والفلسفي في أتون نارٍ ملتهبة، وحرائق أحالت أحلامه في الانبعاث إلى رماد، لينكسر «الجسر» أخيراً، بين ضفتي الأمل والجحيم، سكونية «الناي» وحركة «الريح» العاصفة.
سنختزل تجربة خليل حاوي بأنها كانت حصيلة شرق غيبي ونهضة مؤجلة. وعي محتدم، وزمن منكسر. نبي بلا راية، وأحلام مجهضة، تلك هي تضاريس خريطته الشعرية التي لا تخلو من الحفر والانهدامات. ولكن بعد كل هذا الخراب، هل سيعبر الرفاق «الجسر في الصبحِ خفافاً» ويكملون النشيد «أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْراً وطيدْ. مِن كُهوفِ الشرقِ، مِن مُستنْقعِ الشَّرقِ، إِلى الشَّرقِ الجديدْ. أَضْلُعي امْتَدَّتْ لَهُم جِسراً وطيدْ».