كأس العالم لكرة القدم في قطر؟ من كان يصدّق!
في المرتبة 113 كان موقع منتخب قطر الكروي بين منتخبات العالم عندما تقدّمت سلالتها الحاكمة بطلب لتنظيم بطولة كأس العالم لدورة عام 2022. وفي الحقيقة لم يكن لدى الإمارة أي نقاط للمفاضلة مع أي دولة أخرى منافسة. فليس لها تراث كروي ذو قيمة ولم يتأهل فريقها الوطني لأي من بطولات كأس العالم السابقة منذ عام 1934، وسمعتها أنّها تستورد رياضيّيها من دول أخرى (5% فقط من لاعبي المنتخب الوطني كانوا قطريين غير مجنّسين)، وهي بلد صغير لا يتجاوز عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة غالبيتهم الساحقة من العمال الأجانب، ولا يمتلك لا الخبرة التنظيمية ولا البنية التحتيّة ولا الإمكانيّة العمليّة لاستضافة جمهور يقدّر عادة بمليون ونصف زائر خلال موعد منافسات البطولة. ولا يمكن بحكم الطقس المتطرّف حرّاً ورطوبة توقّع قبول الفرق الكروية العالميّة بالمشاركة في منافسات فيها في عزّ الصيف، ناهيك بالطبع عن المحاذير السياسيّة والأخلاقيّة لمنح دويلة ذات نظام قروسطيّ متخلّف بكل المقاييس ومتهم بدعم الإرهاب المتطرّف فرصة تنظيم بطولة من هذا الحجم وفي إطار مجتمع تقليديّ محافظ لا يعترف بأدنى الحريّات الفرديّة. فعلام إذن تجرّأ آل ثاني على العالم بهكذا طلب؟
للإجابة على هذا السؤال لا يمكن الاكتفاء بالحديث عن الأموال والتعهدات التي تقدمت بها السلالة الحاكمة من أجل شراء الحق في تنظيم البطولة. فمن المؤكد أن مجموع الـ220 ملياراً التي أنفقت حتى الآن لابتياع معجزات هندسيّة لخلق بنية تحتية وتنظيمية من العدم ذهبت في معظمها لشركات غربيّة كبرى، إضافة إلى مليارات أخرى أهدرت على شراء ضمائر رسميين في الاتحاد الدّولي لكرة القدم ومؤثرين في الإعلام والرياضة ممن يسهل إغواؤهم. ولأجل تقليل الاستهجان العالميّ، فقد تم لاحقاً تغيير موعد البطولة لتنظّم خلال فصل الخريف، ووعد القطريون بالتّساهل في كل ما يطلب منهم لأجل تمرير البطولة بما في ذلك تجميد العمل بالأعراف المحليّة في ما يتعلّق بشرب الخمور والعلاقات الجنسيّة والسّفور، بل حتى استضافة الجمهور الإسرائيلي في رحلات مباشرة من مطار بن غوريون الدّولي، وهم استأجروا جمهوراً «كومبارس» للقيام بدور المشجعين في حال فشل الإمارة في استقطاب جمهور كاف لحضور المباريات. وللمقارنة، فإن كلفة تنظيم كأس العالم في جنوب أفريقيا بلغت ثلاثة مليارات فقط، وهي استثمارات لها عائد طويل بحكم أن المنشآت والبنية التحتية يمكن الاستفادة منها من قبل المجتمعات المحليّة، وهو أمر غير ممكن في قطر بحكم محدودية عدد السكان. إن هذا الاختلال الحاد في التكاليف والإيرادات من استضافة البطولة لا يمكن بالطبع أن يحدث إلا في بلد لا محاسبة فيه، ولا رقابة.
لكن الأمر ليس مالياً وتقنيّاً وحسب. فالمدعوة قطر ليست في النهاية سوى كيان وظيفيّ محض تديره سلالة آل ثاني كمتعهد يتولى رعاية الموارد البتروكيمياوية الهائلة لشبه الجزيرة القطريّة حصراً وفق مصالح الولايات المتحدة وتوجيهاتها، فيما تقدّم أراضيها كقاعدة انطلاق إقليميّة للجيش الأميركيّ (قاعدة العيديد أكبر مواقع القوات الأميركيّة في الشرق الأوسط) ومركز عمليّات استخباريّاً لإدارة حروب العم سام في العراق وسوريا وليبيا، وأفغانستان، وإيران، واليمن. وفي إطار هذا الترتيب، فإن الأمور متروكة كليّاً لحكمة آل ثاني في كيفية إدارة مجتمع سكان كيانهم في ظل نظام ديكتاتوريّ مستبد أقرب لأنظمة الحكم الإلهي في القرون الوسطى. وإذا قالت الولايات المتحدّة بأن يُقام كأس العالم في قطر، فلا رادّ لقضاء الولايات المتحدة.
فلنعرفكم على قطر إذن. يمثل القطريون 11 في المئة فقط من إجمالي سكان البلاد، ويعدون أقليّة نادرة في قلب بحر من الأجانب الذين يعيشون بينهم والبالغ عددهم أكثر من مليونَي نسمة، ثلاثة أرباعهم من الذّكور. ويتموضع القطريون بحكم المولد على طبقة أولى على قمة السلم الاجتماعي ويحظون بغض النظر عن الكفاءة أو مستوى التعليم بالرواتب المرتفعة والمناصب القيادية في الحكومة والمؤسسات التي تديرها السلالة. ويسهل لزائر الدّوحة تمييز هذه الفئة الذهبيّة من خلال السيارات الفارهة للرجال والأزياء وحقائب اليد باهظة الثمن للنساء اللواتي يرتدين العباءة تقليدياً. وقد عاشت هذه الإمارة مغبرة متخلفة حتى عن جيرانها إلى وقت قريب، لكن الثروة الهائلة التي تدفقت عليها بفضل الاحتياطات الهائلة من الغاز الطبيعي سمحت لسلالتها الحاكمة بتبني مشروع منافسة هائل مع جيرانها الخليجيين سواء من خلال بناء مسرف للطرق وناطحات السحاب ومراكز التسوق والمتاحف، أو عبر تنظيم ترسانة قوّة ناعمة تضمنت استقطاب جماعة الإخوان المسلمين كأداة يمكن من خلالها اختراق مجتمعات عربيّة عريقة مثل سوريا ومصر وليبيا والجزائر وتونس والتأثير على الأحداث فيها، وكذلك إطلاق مجموعة أدوات إعلاميّة وأكاديمية وأذرع نشر وجوائز ثقافيّة ومواقع إلكترونيّة وصحف ومنظومة رشاوى وأجور لمثقفين ومؤثرين.
هذا النمو السرطانيّ المتسارع تطلّب وجود أعداد متزايدة من العمال ذوي الأجور المنخفضة من الدول الفقيرة (كالنيبال والهند وبنغلادش) لتنفيذ أعمال البنية التحتيّة، إلى جانب عمال آخرين غربيين ذوي أجور أفضل يشغلون الأدوار الإدارية وعرب يديرون عجلة ترسانة القوة الناعمة. لا أحد بالطبع يذهب إلى دوحة آل ثاني من أجل طقسها، لكن حصراً بحثاً عن فرص التشغيل (لذوي الياقات الزرقاء) والمال الوفير (لذوي الياقات البيضاء). لكن الجميع يندرج فور وصوله في «نظام طبقي قائم على الأصل القومي» وفق وصف مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالعنصرية في تقريره عن قطر عام 2020، حيث تعتمد الرواتب والمكانة حصراً على لون البشرة وجواز السفر الذي تحمله ومقدار رضى كفيلك القطري عنك وترتيب ذاك الكفيل في هيكلية القبائل القطريّة.
وتعد الإمارة اليوم رابع أغنى دولة في العالم من حيث نصيب الفرد، لكن هناك تفاوت صارخ في توزيع الأجور حيث بذخ صارخ من قبل القطريين في موازاة بؤس معظم أفراد الطبقة العاملة الذين يحصل أحدهم على أقل من 1000 ريال (275 دولاراً) شهرياً كمعدل، وهذا فقط على إثر تطبيق صارم لحد أدنى للأجور عام 2019 بعد ضغوط دوليّة مرتبطة بكأس العالم. وعلى خلفية تناقض البذخ واليأس، هناك فصل اجتماعي شديد بين المكونات الاجتماعيّة. ولا يمكن لعمّال البناء في ملابسهم الزرقاء أو البرتقالية مع أغطية الوجه المصنوعة من القماش المرتجل، أن يحلموا بالتردد على حانات الفنادق والمطاعم التي أصبحت الآن عنصراً أساسياً في حياة الطبقات الثرية، وهناك دائماً إجراءات ما لمنع دخولهم إلى مرافق التسوق الفخمة وحتى الحدائق العامّة. وبينما يعيش القطريون وكبار المغتربين في قصور، أو فلل أو مجمعات سكنيّة ميسورة أو عمارات فارهة، فإن ثلثي السكان يعيشون في مناطق مكتظة حيث عدة أفراد يتكدسون في غرفة واحدة، تماماً كما يتوقع في ديستوبيا مثالية عن عصر الرأسماليّة المتأخرة.
وقد أثار بعض الصحافيين في صحف غربيّة الذين يبدو أنهم لم تصلهم الدفعات القطريّة، بعضاً من صخب حول أوضاع مروعة يواجهها عمال وافدون استجلبوا بكثافة للعمل لتشييد الملاعب الفخمة التي ستستضيف البطولة. فتحدث تقرير لـ «غارديان» البريطانية عن ظروف عيش «شبيهة بالعبودية»، واحتجاز جوازات السفر، وإقامة دون المستوى المطلوب، وأجور متدنيّة قد لا تدفع كاملة. وهناك تقرير في العدد الأخير من «تايم» الأميركيّة عن عدد يقارب الـ 7 آلاف من العمال الذين لقوا حتفهم بسبب إجبارهم على العمل لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة والرّطوبة العالية. وتقدر منظمة «بلاي فير قطر» أنّ نحو 65 عاملاً ماتوا مقابل كل مباراة ستلعب في هذه الدورة لكأس العالم، وأن كل ملعب من ملاعبها السبعة بني على جثث ألف عامل على الأقل.
لكن على هؤلاء أن لا يلوموا آل ثاني على عزمهم إقامة هذا السيرك في إمارتهم الممتدة كلسان في قلب الخليج، إذ لا يلام السفيه على سفاهته. بل عليهم أن يلوموا أنفسهم وصحفهم ونخبهم الحاكمة من الطريقة المبتذلة التي سمحوا بها لهذا النظام المستبد والخبيث بتلميع صورته من خلال شراء لعبة العالم المفضلة رغم كل المحاذير. إنه لأمر بغيض أن تقام هذه البطولة على أراضي بلاد لم تدّخر وسعاً في دعم الإرهاب والفوضى في كل بلد عربي تقريباً، لكن الواقع أن قطر - وكأس عالمها البشع - ليست في النهاية سوى لطخة أخرى إلى جانب أخواتها الخليجيات اللواتي لا تقل أيّ منها فساداً عنها على وجه البشريّة، لم تكن لتوجد، وتتجبّر، وتنظم كأس العالم لولا النظام العالمي الفاسد الذي يهيمن عليه الغرب. هذه قطركم، وهذا سيرككم، ولا عزاء لنا عشاق اللعبة الجميلة حول العالم الذين يتعيّن علينا الآن أن ننتظر أربع سنوات أخرى كي نستمتع بمونديال غير مزوّر.