«وإكمني ثاير بقول من فات قديمه تاه..
لا بد للحي يترحَّم على موتاه..
واللي أتى بالجديد.. لولا القديم ما أتاه
يا أمتاه أنا ابنك على الأثر ساير»
تلك السطور من ديوان «مسحراتي العرب» لوالد الشعراء فؤاد حدّاد هي أول ما أتذكره دوماً عندما أقرأ أو أسمع لفظ «التجديد» في ما يتعلَّق بالأدب عموماً وبالشعر خصوصاً، وبالطبع تصبح أكثر إلحاحاً على الذهن عندما يتعلّق الأمر بشعر حدّاد ذاته، وفي رأيي أن التجديد لدى حدّاد تحديداً لا يمكن أن يُفسَّر إلا في ضوء القديم، وإلا فقدنا الأثَر ولهثنا طويلاً في محاولة استيعاب تلك الطاقة الشعرية المذهلة.


حدَّاد هو واحد من أوائل من كتبوا شعر العامية المصرية بالشكل الذي نعرفه الآن، متزامناً في هذا مع صديقه صلاح جاهين. وإذا تصوّرنا أن حدّاد أراد النظر إلى تراث العامية المصرية، فلن يجد إلا أسماءً معدودة أبرزها بالطبع بيرم التونسي الذي كان يكتب زجلاً يحمل هموماً سياسية واجتماعية ويعبّر عنها بشكل ساخر. ولأنه لم يكن هناك مخزون قديم، فمن السهل أن يتصَّور القارئ أنّ أمر التجديد والإضافة، كان في غاية السهولة. لكن حدَّاد بذكائه الحاد أدرك أن عليه توسيع مدى رؤيته لينظر إلى تراث الشعر العربي كله، وربما تراث الشعر العالمي أيضاً، وأنا أعلم من قراءتي له أنه لم يكتفِ حتى بذلك، بل مدّ بصره إلى تراث الإنسانية كلها: آداباً وفنوناً وعلوماً وتاريخاً.
يحكي عن السيرة النبوية في «الحضرة الزكية»، فتشعر كأنك تجلس بصحبة النبي


كان أول ما فعله حدَّاد على مستوى التجديد أنه قرر ألا يكون شعر العامية مُجرد زَجَل. كان يرى أن العامية يمكنها أن تحمِل هموم الفِكر والفلسفة، والأهم أن تناقشها بشكلٍ جاد كما تفعل الفُصحى. وهو ما لم يفكر به التونسي رغم قدراته المذهلة. وبالطبع، اختلاف الظرف الزماني ساعد حدّاد في ذلك، فعندما كتب بيرم العامية، كان من الصعب على القُرّاء التعامل معها بجدية، فمجرد قول كلمات عامية موزونة ومقفاة، كان يُشعر الناس بأن هذا ليس الشعر الذي اعتادوا عليه، فهو بالنسبة إلى عقولهم أقرب إلى أن يكون سخريةً من ذلك الشعر المُعتاد.
حدّاد هو أكثر الشعراء تعلُّقاً بالتراث، وأكثرهم تمرداً عليه، وربما هذا المزيج العجيب هو ما جعل شعره أشبه بالتعاويذ السحرية. يمكنك أن تقرأ لحدّاد قصيدة، فتشعر أنها كُتبت منذ قرونٍ عدة، وقصيدة أخرى كأنها كُتبت من المستقبل. هذه السمات لم تتوافر لدى شاعر عامية آخر. حدّاد مثلاً يحكي عن السيرة النبوية في «الحضرة الزكية»، فتشعر كأنك تجلس بصحبة النبي الكريم، وهو يتعامل كأنه عاش هناك فعلاً فيقول:
«خلينا أول فوج من الأحباب..
خلّينا أول فوج من المؤمنين»
ويصوّر نفسه كأنه أحد شعراء النبي الجديد، فيقول:
«أشعاري أشجاري في ضل النبي..
مدِّت غصون زهَّر عليها الزهر
عدّينا عشرة موعودين بالجنة
والجنة موعودة بأدب أبو بكر».
هل يمكن لأحد أن يتصوَّر أن الشاعر الذي خطّ بيديه تلك الأبيات، كتب قصيدة النثر بشكلِها المتعارف عليه اليوم؟ فعلها حدَّاد مراراً، فتجده مثلاً يقول في سطورٍ بديعة خالية من الوزن والقافية:
«كلمة أنا ما تحلاش إلا بدفا الجماعة..
زي لمّا تخبط على باب الحبايب ويسألوا (مين؟)
تقول (أنا) ويعرفوك من حسك»
وأنا أظن أنه لا يوجد شكل من أشكال الكتابة الشعرية لم يجرّبه حدَّاد. كان حداثياً أكثر من كل الزاعقين بالحداثة ليل نهار، والميزة الأهم في حداثته أنها لا تتجلى على مستوى الشكل فقط. حداثته تنطلق على كل المستويات، فقد كان يبتكر تركيبات لغوية غير مسبوقة، وينحت ألفاظاً جديدة تماماً من ألفاظٍ استهلُكت مراراً، وهو قادر على أن يمزج القديم بالحديث بسلاسة غير مسبوقة. مثلاً في ديوانِه «رقص ومغنى»، ابتكر رقصات عديدة، من أشهرها «رقصة الكلب» التي يبدأ فيها بالحديث عن المُتنبّي تمهيداً للرقصة، فيقول على لسان الكلب:
«الشاعر اللي شحت
ع العضم جلد وشغت
شمت الملك فيه..
شمت فيّا أنا جزار على بقال
زاد في المقام عني.. وذل السؤال
ولطم خدوده وبكّ دمه وقال
وكم ذا بمصر من المُضحكاتِ
ولكنه ضحك كالبُكا».
ربما تتصور الآن أن حدّاد مرتبط بشدة بتراثِنا العربيّ، وأن ساقيه غارستان في طينِه، لكن رشاقة فؤاد حدّاد قادرة على مباغتتك دائماً، فتجده في قصيدة أخرى يتحدث عن المخرج الإنكليزي المعروف ألفريد هيتشكوك.. فيسميه حدَّاد في القصيدة «الفريدُ هويتشكوك» وتأمل كيف يستطيع اللعب والتلاعب باللغة لكي يأتي بقافية مُبتكرة وغريبة، فيقول:
«فأنت في الهوةِ تهوي..
واللهو يصرخ يا لهوي
من لذة الفزع الخانق
أتتكَ حين هويتَ شكُوك
هو الفريدُ هويتشكوك»
وسِحر حدّاد في التعامل مع اللغة لا يتوقف عند هذا المستوى. حينما تقرأ له، لا تعرف ما يكتبه عامية مصرية خالصة أم فصحى، أم أنه يمزج الاثنتَين معاً ليبتكر لغة جديدة خاصة به وحده، ولا يكتفي حتى بذلك، فتجده في قصيدة «تستغرب من إيه» يتحدث اللهجة اللبنانية ويكتب بها بطلاقة ــ ربما لأصوله الشامية ـــ لكن الأهم أنه لا يخشى أن يقتحم آفاقاً لغوية جديدة ويزيّن بها العامية المصرية، فتلك القصيدة مكتوبة كلها بالعامية باستثناء مقطع واحد كُتب باللهجة اللبنانية قال فيه:
«بينادوني يا أبو الشام
ويقولوا يا عيب الشوم
والشاطر منهم وهمان
يحدفني بدبش ودبشوم
بدّي أهرب من حالي
بدي أموت هوني هوني
برصاصة مرّة في ضهري
ورصاصة مرة في صدري
وتنادوني يا أبو الشام
والشاطر يحفر قبري».
حدّاد شاعر مُربك في قراءتِه، من الصعب الإمساك به، ويكاد يكون من المستحيل التعرُّف إلى عالمه الداخلي الذي أتى منه بكل هذا السحر والابتكار، إلى درجة أنه كتب «شرح ديوان أم نبات» ومن هي أم نبات تلك؟ هي شاعرة تراثية من ابتكاره الخالص، فهو كتب ديوانها بنفسه ثم قام بشرح ديوانها!
إلى تلك الدرجة كان حدَّاد يعشق التجريب واللعب، ولا يتعامل مع الكتابة بالمنطق الطبيعي. لذلك إذا أردت أن تقرأه، فأنصحك بأن تتخلى عن منطقك المُعتاد، وتغوص في ذلك السحر الخالص بكل غرابته ولا منطقيته.

* شاعر عامية مصري